{ وَنَادَوْا يَامَالِكُ } وهو : خازن النار .
قال البخاري : حدثنا حجاج بن مِنْهال ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن عطاء {[26140]} ، عن صفوان بن يعلى ، عن أبيه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر : { وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } {[26141]} أي : ليقبض أرواحنا فيريحنا مما نحن فيه ، فإنهم كما قال تعالى : { لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا } [ فاطر : 36 ] . وقال : { وَيَتَجَنَّبُهَا{[26142]} الأشْقَى . الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى . ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى } [ الأعلى : 11 - 13 ] ، فلما سألوا أن يموتوا أجابهم مالك ، { قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ } : قال ابن عباس : مكث ألف سنة ، ثم قال : إنكم ماكثون . رواه ابن أبي حاتم .
{ ونادوا يا مالك } وقرئ " يا مال " على الترخيم مكسورا ومضموما ، ولعله إشعار بأنهم لضعفهم لا يستطيعون تأدية اللفظ بالتمام ولذلك اختصروا فقالوا : { ليقض علينا ربك } والمعنى سل ربنا أن يقضي علينا من قضى عليه إذا أماته ، وهو لا ينافي إبلاسهم فإنه جؤار وتمن للموت من فرط الشدة { قال إنكم ماكثون } لا خلاص لكم بموت ولا بغيره .
ثم ذكر تعالى عن أهل النار أنهم ينادون مالكاً خازن النار ، فيقولون على معنى الرغبة التي هي في صيغة الأمر { ليقض علينا ربك } أي ليمتنا مرة حتى يتكرر عذابنا .
وقرأ النبي عليه السلام على المنبر : «يا مالكٍ » بالكاف ، وهي قراءة الجمهور . وقرأ ابن مسعود ويحيى والأعمش : «يا مال » بالترخيم ، ورويت عن علي بن أبي طالب ، ورواها أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم .
والقضاء في هذه الآية بمعنى الموت ، كما قال تعالى : { فوكزه موسى فقضى عليه } [ القصص : 15 ] وروي في تفسير هذه الآية عن ابن عباس أن مالكاً يقيم بعد سؤالهم ألف سنة ، وقال نوف : مائة سنة ، وقيل : ثمانين سنة . وقال عبد الله بن عمر : وأربعين سنة ، ثم حينئذ يقول لهم : { إنكم ماكثون } .
جملة { ونادوا } حال من ضمير { وهم فيه مبلسون } [ الزخرف : 75 ] ، أو عطف على جملة { وهم فيه مبلسون } . وحكي نداؤهم بصيغة الماضي مع أنه مما سيقع يوم القيامة ، إما لأن إبلاسهم في عذاب جهنم وهو اليأس يكون بعد أن نادوا يا مالك وأجابهم بما أجاب به ، وذلك إذا جعلت جملة { ونادوا } حالية ، وإمّا لتنزيل الفعل المستقبل منزلة الماضي في تحقيق وقوعه تخريجاً للكلام على خلاف مقتضى الظاهر نحو قوله تعالى : { ويوم ينفخ في الصور } [ النمل : 87 ] { فصَعِق مَن في السماوات ومَن في الأرض } [ الزمر : 68 ] وهذا إن كانت جملة { ونادوا } الخ معطوفة .
و ( مالك ) المنادى اسم الملَك الموكّل بجهنم خاطبوه ليرفع دعوتهم إلى الله تعالى شفاعة .
واللام في { ليقض علينا ربك } لام الأمر بمعنى الدعاء . وتوجيه الأمر إلى الغائب لا يكون إلا على معنى التبليغ كما هنا ، أو تنزيل الحاضر منزلة الغائب لاعتبار مَّا مثل التعظيممِ في نحو قول الوزير للخليفة : لِيَرَ الخليفة رأيه .
والقضاء بمعنى : الإماتة كقوله : { فوكزه موسى فقضَى عليه } [ القصص : 15 ] ، سألوا الله أن يزيل عنهم الحياة ليستريحوا من إحساس العذاب . وهم إنما سألوا الله أن يميتهم فأجيبوا بأنهم ماكثون جواباً جامعاً لنفي الإماتة ونفي الخروج فهو جواب قاطع لما قد يسألونه من بعدُ .
ومن النوادر المتعلقة بهذه الآية ما روي أن ابن مسعود قرأ ( ونادَوا يا مَالِ ) بحذف الكاف على الترخيم ، فذكرت قراءته لابن عباس فقال : مَا كان أشغلَ أهلَ النار عَن الترخيم ، قال في « الكشاف » : وعن بعضهم : حسَّن الترخيم أنهم يقتطعون بعض الاسم لضعفهم وعظم ما هم فيه اهـ . وأراد ببعضهم ابنَ جني فيما ذكره الطِّيبي أن ابن جنّي قال : وللترخيم في هذا الموضع سرّ وذلك أنهم لعظم ما هم عليه ضعفتْ وذلّتْ أنفُسهم وصغر كلامهم فكان هذا من مواضع الاختصار . وفي « صحيح البخاري » عن يَعْلَى بن أمية سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر { ونادوا يا مالك } بإثبات الكاف . قال ابن عطية : وَقِرَاءَةُ ( ونادوا يا مال ) رواها أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيكون النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بالوجهين وتواترت قراءة إثبات الكاف وبقيت الأخرى مروية بالآحاد فلم تكن قرآناً .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ونادى هؤلاء المجرمون بعد ما أدخلهم الله جهنم، فنالهم فيها من البلاء ما نالهم، مالكا خازن جهنم "يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبّكَ "قال: ليمتنا ربك، فيفرغ من إماتتنا... فيقول لهم: "إنّكُمْ ماكِثُونَ"...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يفزعون أولا إلى المؤمنين، وهو قولهم {أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرّمهما على الكافرين} [الأعراف: 50]، فلما أيِسوا من ذلك يفزعون إلى الله تعالى، يسألون الرجوع إلى المحنة ليعملوا غير الذي عملوا بقولهم {ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل} [فاطر: 37] فلما أيسوا من ذلك يفزعون إلى مالك ليسأل ربه ليقضي عليهم بالموت، فقال: {إنكم ماكثون} وهو ما قال عز وجل: {لا يُقضى عليهم فيموتوا ولا يُخفّف عنهم من عذابها} الآية [فاطر: 36].
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ} أي لابثون في عذابها أحياء.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان من مفهوم الإبلاس السكوت، أعلم بأن سكوتهم ليس دائماً لأن الإنسان إذا وطن نفسه على حالة واحدة ربما خف عنه بعد الألم، فقال مبيناً أنهم من البعد بمحل كبير لا يطمعون معه في خطاب الملك، وأنهم مع علمهم باليأس يعلقون آمالهم بالخلاص كما يقع للمتمنين للمحالات في الدنيا ليكون ذلك زيادة في المهم:
{ونادوا} ثم بين أن المنادي خازن النار فقال مؤكداً لبيان البعد بأداته: {يا مالك}...
{ليقض علينا} أي سله سؤالاً حتماً أن يقضي القضاء الذي لا قضاء مثله، وهو الموت على كل واحد منا، وجروا على عادتهم في الغباوة والجلافة فقالوا: {ربك} أي المحسن إليك فلم يروا لله عليهم إحساناً وهم في تلك الحالة، فلا شك أن إحسانه ما انقطع عن موجود أصلاً، وأقل ذلك أنه لا يعذب أحداً منهم فوق استحقاقه، ولذلك جعل النار دركات كما كانت الجنة درجات، ويجوز أن تكون عبارتهم بذلك تغييظاً له بما رأوا من ملابسة النار من تأثير فيه، ونداؤهم لا ينافي إبلاسهم لأنه السكوت عن يأس، وذلك لازم لهم لأنهم كلما سكتوا كان سكوتهم عن يأس، فسكوتهم المقيد باليأس دائم، فلذلك سألوا الموت، والحاصل أنهم لا يتكلمون بما يدل على رجاء الفرج بل هم ساكتون أبداً عن ذلك اليأس لا على رجاء الفرج باللحاق برتبة المتقين. ولما ذكر نداءهم، استأنف ذكر جوابهم بقوله: {قال} أي مالك عليه الصلاة والسلام مؤكداً لأطماعهم؛ لأن كلامهم هذا بحيث يفهم الرجاء ويفهم بأن رحمة الله تعالى التي هي موضع الرجاء خاصة بغيرهم {إنكم ماكثون}.
تيسير التفسير لاطفيش 1332 هـ :
{إنَّكم ماكثونَ}... والعبارة بالمكث تهكم بهم، لأنه لفظ يفهم الانقطاع وعلموا أنه تهكم بهم، وأنهم خالدون دائما، ولأنه يشعر بالاختيار ولا اختيار لهم في المقام، بل هم مضطرون، يعبر به بدل انكم محبوسون...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
تمنوا تعطل الحواس وعدم الإحساس، لشدّة التألم بالعذاب الجسمانيّ.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم تتناوح في الجو صيحة من بعيد. صيحة تحمل كل معاني اليأس والكرب والضيق (ونادوا: يا مالك. ليقض علينا ربك).. إنها صيحة متناوحة من بعد سحيق. من هناك من وراء الأبواب الموصدة في الجحيم. إنها صيحة أولئك المجرمين الظالمين. إنهم لا يصيحون في طلب النجاة ولا في طلب الغوث. فهم مبلسون يائسون. إنما يصيحون في طلب الهلاك. الهلاك السريع الذي يريح، وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا! وإن هذا النداء ليلقي ظلاً كثيفاً للكرب والضيق. وإننا لنكاد نرى من وراء صرخة الاستغاثة نفوساً أطار صوابها العذاب، وأجساماً تجاوز الألم بها حد الطاقة فانبعثت منها تلك الصيحة المريرة: (يا مالك. ليقض علينا ربك)! ولكن الجواب يجيء في تيئيس وتخذيل، وبلا رعاية ولا اهتمام: (قال: إنكم ماكثون)! فلا خلاص ولا رجاء ولا موت ولا قضاء.. إنكم ما كثون!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
سألوا الله أن يزيل عنهم الحياة ليستريحوا من إحساس العذاب. وهم إنما سألوا الله أن يميتهم فأجيبوا بأنهم ماكثون جواباً جامعاً لنفي الإماتة ونفي الخروج فهو جواب قاطع لما قد يسألونه من بعدُ...