وقوله : { مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإ الأعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ } أي : لولا الوحي من أين كنت أدري باختلاف الملأ الأعلى ؟ يعني : في شأن آدم وامتناع إبليس من السجود له ، ومحاجته ربه في تفضيله عليه .
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا جهضم اليمامي عن يحيى بن أبي كثير ، عن زيد بن أبي سلام عن أبي سلام عن عبد الرحمن بن عائش عن مالك بن يخامر عن معاذ رضي الله عنه ، قال : احتبس علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة عن صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى قرن الشمس . فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا فَثَوّب بالصلاة فصلى وتَجَوّز في صلاته فلما سلم قال : " كما أنتم على مصافكم " . ثم أقبل إلينا فقال : " إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة ، إني قمت من الليل فصليت ما قُدّر لي فنعست في صلاتي حتى استيقظت فإذا أنا بربي في أحسن صورة فقال : يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى ؟
قلت لا أدري رب - أعادها ثلاثا - فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين صدري فتجلى لي كل شيء وعرفت فقال : يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت : في الكفارات . قال : وما الكفارات ؟ قلت نقل الأقدام إلى الجمعات والجلوس في المساجد بعد الصلوات وإسباغ الوضوء عند الكريهات . قال : وما الدرجات ؟ قلت : إطعام الطعام ولين الكلام والصلاة والناس نيام . قال : سل . قلت اللهم إني أسألك فعل الخيرات ، وترك المنكرات ، وحب المساكين ، وأن تغفر لي وترحمني ، وإذا أردت فتنة بقوم فتوفني غير مفتون ، وأسألك حبك وحب من يحبك ، وحب عمل يقربني إلى حبك " . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنها حق فادرسوها وتعلموها " فهو حديث المنام المشهور ومن جعله يقظة فقد غلط وهو في السنن من طرق .
وهذا الحديث بعينه قد رواه الترمذي من حديث " جهضم بن عبد الله اليمامي " به . وقال : " حسن صحيح " وليس هذا الاختصام هو الاختصام المذكور في القرآن فإن هذا قد فسر .
وقوله : ( إنْ يُوحَى إليّ إلاّ أنّمَا أنا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لمشركي قريش : ما يوحي الله إليّ علم ما لا علم لي به ، من نحو العلم بالملأ الأعلى واختصامهم في أمر آدم إذا أراد خَلقه ، إلا لأني إنما أنا نذير مبين «فإنما » على هذا التأويل في موضع خفض على قول من كان يرى أن مثل هذا الحرف الذي ذكرنا لا بد له من حرف خافض ، فسواءٌ إسقاط خافضه منه وإثباته . وإما على قول من رأى أن مثل هذا ينصب إذا أسقط منه الخافض ، فإنه على مذهبه نصب ، وقد بيّنا ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وقد يتجه لهذا الكلام وجه آخر ، وهو أن يكون معناه : ما يوحي الله إلى إنذاركم . وإذا وجه الكلام إلى هذا المعنى ، كانت «أنما » في موضع رفع ، لأن الكلام يصير حينئذٍ بمعنى : ما يوحَى إليّ إلا الإنذار .
قوله : ( إلا أنما أنا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) : يقول : إلا أني نذير لكم مُبِين لكم إنذاره إياكم . وقيل : إلا أنما أنا ، ولم يقل : إلا أنما أنك ، والخبر من محمد عن الله ، لأن الوحْي قول ، فصار في معنى الحكاية ، كما يقال في الكلام : أخبروني أني مسيء ، وأخبروني أنك مسيء بمعنى واحد ، كما قال الشاعر :
رَجُلانِ مِنْ ضَبّةَ أخْبَرَانا *** أنّا رأيْنا رَجُلاً عُرْيانا .
بمعنى : أخبرانا أنهما رأيا ، وجاز ذلك لأن الخبر أصله حكاية .
جملة { إن يوحى إليَّ إلاَّ أنَّما أنا نذيرٌ مبينٌ } مبيّنة لجملة { ما كانَ لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون } ، أي ما علمتُ بذلك النبأ إلا بوحي من الله وإنما أوحَى الله إليّ ذلك لأكون نذيراً مبيناً .
وقد رُكّبت هذه الجملة من طريقين للقصر : أحدهما طريق النفي والاستثناء ، والآخر طريق { أَنما } المفتوحة الهمزة وهي أخت ( إنما ) المكسورة الهمزة في معانيها التي منها إفادة الحصر ، ولا التفات إلى قول من نفوا إفادتها الحصر فإنها مركبة من ( أنّ ) المفتوحة الهمزة و ( ما ) الكافّة وليست ( أنّ ) المفتوحة الهمزة إلا ( إِن ) المكسورة تُغَيَّر كسرة همزتها إلى فتحة لتفيد معنىً مصدرياً مشرباً ب ( أَنْ ) المصدرية إشراباً بديعاً جعل شعاره فتح همزتها لتشابه ( أَنْ ) المصدرية في فتح الهمزة وتشابه ( أَنَّ ) في تشديد النون ، وهذا من دقيق الوضع في اللغة العربية . وتكون { أَنما } مفتوحةَ الهمزة إذا جعلت معمولة لعامل في الكلام . والذي يقتضيه مقام الكلام هنا أن فتح همزة { أَنما } لأجل لام تعليل مقدرة مجرور بها { أنما } . والتقدير : إلاّ لأَنما أنا نذير ، أي إلا لعلّة الإِنذار ، أي ما أوحي إلي نبأ الملأ الأعلى إلا لأنذركم به ، أي ليس لمجرد القصص .
فالاستثناء من علل ، وقد نُزِّل فعل { يوحى } منزلة اللازم ، أي ما يوحى إلي وحيٌ فلا يقدّر له مفعول لقلة جدواه وإيثار جدوى تعليل الوحي .
وبهذا التقدير تكمل المناسبة بين موقع هذه الجملة وموقع جملة { ما كانَ لي مِن علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون } المبيّنة بها جملةُ { قُل هُوَ نبؤا عظيم أنتم عنه مُعرضون } ، إذ لا مناسبة لو جعل { أنَّما أنا نذيرٌ مبينٌ } مستثنى من نائب فاعل الوحي بأن يقدر : إن يوحى إليّ شيء إلا أنما أنا نذير مبين ، أي ما يوحى إليّ شيء إلا كوني نذيراً ، وإن كان ذلك التقدير قد يسبق إلى الوهم لكنه بالتأمل يتّضح رجحان تقدير العلة عليه .
فأفادت جملة { إن يوحى إليَّ أنَّما أنا نذيرٌ مبينٌ } حصر حكمة ما يأتيه من الوحي في حصول الإِنذار وحصر صفة الرسول صلى الله عليه وسلم في صفة النذارة ، ويستلزم هذان الحصران حصراً ثالثاً ، وهو أن إخبار القرآن وحي من الله وليست أساطير الأولين كما زعموا . فحصل في هذه الجملة ثلاثة حصور : اثنان منها بصريح اللفظ ، والثالث بكناية الكلام ، وإلى هذا المعنى أشار قوله تعالى : { وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك } [ القصص : 46 ] . وهذه الحصور : اثنان منها إضافيان ، وهما قصر ما يوحى إليه على علة النذارة وقصر الرسول صلى الله عليه وسلم على صفة النذارة ، وكلاهما قلب لاعتقادهم أنهم يسمعون القرآن ليتخذوه لعباً واعتقادهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم ساحر أو مجنون . وعلم من هذا أن ذكر نبأ خلق آدم قصد به الإِنذار من كيد الشيطان . وقرأ أبو جعفر { إلاَّ إنَّما } بكسر همزة { إنما } على تقدير القول ، أي ما يوحى إلا هذا الكلام .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن} يعني إذ {يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين} رسول بيّن.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"إنْ يُوحَى إليّ إلاّ أنّمَا أنا نَذِيرٌ مُبِينٌ": يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لمشركي قريش: ما يوحي الله إليّ علم ما لا علم لي به، من نحو العلم بالملأ الأعلى واختصامهم في أمر آدم إذا أراد خَلقه، إلا لأني إنما أنا نذير مبين...
قوله: "إلا أنما أنا نَذِيرٌ مُبِينٌ": يقول: إلا أني نذير لكم مُبِين لكم إنذاره إياكم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{إِن يوحى إِلَىَّ إِلاَّ أَنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ}... ومعناه: ما يوحى إليّ إلا للإنذار... ويجوز...: ما يوحى إليّ إلاّ هذا، وهو أن أنذر وأبلغ ولا أفرط في ذلك، أي ما أومر إلاّ بهذا الأمر وحده، وليس إليّ غير ذلك. وقرئ: «إنما» بالكسر على الحكاية، أي: إلاّ هذا القول، وهو أن أقول لكم: إنما أنا نذير مبين ولا أدعى شيئاً آخر. وقيل: النبأ العظيم: قصص آدم عليه السلام والإنباء به من غير سماع من أحد، وعن ابن عباس: القرآن. وعن الحسن: يوم القيامة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كانوا ربما قالوا في تعنتهم: فلعله مثل ما أوحي إليك بعلم ما لم تكن تعلم، يوحي إليك بالقدرة على ما لم تكن تقدر عليه، فتعجل لنا الموت ثم البعث لنرى ما أخبرتنا به من التخاصم مصوراً، لعلناً نصدقك فيما أتيت به، قال مجيباً لهم قاصراً للوحي على قصره على النذارة وهي إبلاغ ما أنزل إليه، لا تعجيل شيء مما توعدوا به: {إن} أي ما.
{يوحى} أي في وقت من الأوقات، وبناه للمفعول؛ لأن ذلك كاف في تنبيههم على موضع الإشارة في أن دعواه إنما هي النبوة لا الإلهية.
{إليّ إلا} ولما كان الوحي قولاً قرأ أبو جعفر بكسر {إنما أنا نذير} أي قصري على النذارة لا أني أنجز ما يتوعد به الله؛ فإنما مفعول يوحى القائم مقام الفاعل في القراءتين، وإن اختلف التوجيهان فالتقدير على قراءة الجماعة بالفتح: إلا الإنذار أو إلا كوني نذيراً، وعلى قراءة الكسر: إلا هذا القول وهو أني أقول لكم كذا {مبين} أي لا أدع لبساً فيما ابلغه بوجه من الوجوه...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{إِن يُوحَى إِلَيَّ} بما يريد الله لي أن أعرفه وأن أعرّفكم إيّاه، سواءٌ في تحديد مصدر المعلومات لديّ، أو في الدور الذي عهد الله به إليَّ، {إِلاَّ أَنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} لأنذركم بالنار التي تنتظركم إذا كنتم كافرين، وهذا هو حديث الغيب الذي يُطلّ في نهايته على المسؤولية التي حددها الله في بداية خلق الإنسان أثناء حديثه للملائكة ولإبليس.