وقوله [ تعالى ]{[17458]} { إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ } إخبار أنه تعالى هو الرزاق ، القابض الباسط ، المتصرف في خلقه بما يشاء ، فيغني من يشاء ، ويفقر من يشاء ، بما له في ذلك من الحكمة ؛ ولهذا قال : { إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا } أي : خبير بصير بمن يستحق الغنى ومن يستحق الفقر{[17459]} ، كما جاء في الحديث : " إن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ، ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه ، وإن من عبادي لمن لا يصلحه إلا الغنى ، ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه " .
وقد يكون الغنى في حق بعض الناس استدراجًا ، والفقر عقوبة عياذًا بالله من هذا وهذا .
القول في تأويل قوله تعالى { إِنّ رَبّكَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إن ربك يا محمد يبسط رزقه لمن يشاء من عباده ، فيوسع عليه ، ويقدر على من يشاء ، يقول : ويُقَتّر على من يشاء منهم ، فيضيّق عليه إنّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرا : يقول : إن ربك ذو خبرة بعباده ، ومن الذي تصلحه السعة في الرزق وتفسده ومن الذي يصلحه الإقتار والضيق ويهلكه . بصيرا : يقول : هو ذو بصر بتدبيرهم وسياستهم ، يقول : فانته يا محمد إلى أمرنا فيما أمرناك ونهيناك من بسط يدك فيما تبسطها فيه ، وفيمن تبسطها له ، ومِن كفها عمن تكفها عنه ، وتكفها فيه ، فنحن أعلم بمصالح العباد منك ، ومن جميع الخلق وأبصر بتدبيرهم ، كالذي :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، ثم أخبرنا تبارك وتعالى كيف يصنع ، فقال : إنّ رَبّكَ يَبْسُط الرّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ قال : يقدر : يقلّ ، وكل شيء في القرآن يَقْدِر كذلك ثم أخبر عباده أنه لا يرزَؤُه ولا يئُوده أن لو بسط عليهم ، ولكن نظرا لهم منه ، فقال : وَلَوْ بَسَطَ اللّهُ الرّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الأرْضِ وَلكِنْ يُنَزّلُ بقَدَرٍ ما يَشاءُ إنّهُ بِعبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ قال : والعرب إذا كان الخصب وبُسِط عليهم أَشِروا ، وقتل بعضهم بعضا ، وجاء الفساد ، فإذا كان السنة شُغِلوا عن ذلك .
ثم سلاه بقوله : { إن ربك يبسُط الرزق لمن يشاء ويقدر } يوسعه ويضيقه بمشيئته التابعة للحكمة البالغة فليس ما يرهقك من الإضافة إلا لمصلحتك . { إنه كان بعباده خبيرا بصيرا } يعلم سرهم وعلنهم فيعلم من مصالحهم ما يخفى عليهم ، ويجوز أن يراد أن البسط والقبض من أمر الله تعالى العالم بالسرائر والظواهر ، فأما العباد فعليهم أن يقتصدوا ، أو أنه تعالى يبسط تارة ويقبض أخرى فاستنوا بسنته ولا تقبضوا كل القبض ولا تبسطوا كل البسط ، وأن يكون تمهيدا لقوله تعالى : { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } .
وقوله { إن ربك يبسط } الآية ، والمعنى كن أنت يا محمد على ما رسم لك من الاقتصاد وإنفاق القوام ولا يهمنك فقر من تراه كذلك فإنه بمرأى من الله ومسمع وبمشيئة ، { ويقدر } معناه ويضيف ، وقوله تعالى : { إنه كان بعباده خبيراً بصيراً } أي يعلم مصلحة قوم في الفقر ومصلحة آخرين في الغنى ، وقال بعض المفسرين وحكاه الطبري : إن الآية إشارة إلى حال العرب التي كانت يصلحها الفقر ، وكانت إذا شبعت طغت وقتلت غيرها وأغارت ، وإذا كان الجوع والقحط شغلهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن ربك يبسط الرزق}، يعني: يوسع الرزق،
{لمن يشاء ويقدر}، يعني: ويقتر على من يشاء،
{إنه كان بعباده خبيرا}، بأمر الرزق بالسعة والتقتير، {بصيرا}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إن ربك يا محمد يبسط رزقه لمن يشاء من عباده، فيوسع عليه، ويقدر على من يشاء، يقول: ويُقَتّر على من يشاء منهم، فيضيّق عليه.
"إنّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرا": يقول: إن ربك ذو خبرة بعباده، ومن الذي تصلحه السعة في الرزق وتفسده ومن الذي يصلحه الإقتار والضيق ويهلكه، "بصيرا": يقول: هو ذو بصر بتدبيرهم وسياستهم، يقول: فانته يا محمد إلى أمرنا فيما أمرناك ونهيناك من بسط يدك فيما تبسطها فيه، وفيمن تبسطها له، ومِن كفها عمن تكفها عنه، وتكفها فيه، فنحن أعلم بمصالح العباد منك، ومن جميع الخلق وأبصر بتدبيرهم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ثم قال "إن ربك "يا محمد "يبسط الرزق لمن يشاء" فيوسعه عليه على حسب ما يعلم له من المصلحة فيه "ويقدر" أي يضيق عليه لعلمه بما فيه من الصلاح، كما قال "ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض" وقوله "إنه كان بعباده خبيرا بصيرا" أي وهو عالم بأحوالهم، لا يخفى عليه ما يصلحهم، وما يفسدهم، فيفعل معهم بحسب ذلك.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ثم سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يرهقه من الإضافة، بأنّ ذلك ليس لهوان منك عليه، ولا لبخل به عليك، ولكن لأنّ مشيئته في بسط الأرزاق وقدرها تابعة للحكمة والمصلحة. ويجوز أن يريد أن البسط والقبض إنما هما من أمر الله الذي الخزائن في يده، فأما العبيد فعليهم أن يقتصدوا. ويحتمل أنه عزّ وعلا بسط لعباده أو قبض، فإنه يراعي أوسط الحالين، لا يبلغ بالمبسوط له غاية مراده، ولا بالمقبوض عليه أقصى مكروهه، فاستنوا بسنته...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
المعنى: كن أنت يا محمد على ما رسم لك من الاقتصاد وإنفاق القوام ولا يهمنك فقر من تراه كذلك فإنه بمرأى من الله ومسمع وبمشيئة، {ويقدر} معناه ويضيق، وقوله تعالى: {إنه كان بعباده خبيراً بصيراً} أي يعلم مصلحة قوم في الفقر ومصلحة آخرين في الغنى...
{إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} والمقصود أنه عرف رسوله صلى الله عليه وسلم كونه ربا. والرب هو الذي يربي المربوب ويقوم بإصلاح مهماته ودفع حاجاته على مقدار الصلاح والصواب... والقدر في اللغة التضييق...
ثم قال تعالى: {إنه كان بعباده خبيرا بصيرا} يعني: أنه تعالى عالم بأن مصلحة كل إنسان في أن لا يعطيه إلا ذلك القدر، فالتفاوت في أرزاق العباد ليس لأجل البخل، بل لأجل رعاية المصالح...
مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير لابن باديس 1359 هـ :
... وكما أنه بالعمل بآية الإنفاق ينتظم أمر العباد في معاشهم، كذلك بالإيمان بهذه العقيدة تزول حيرتهم، وتطمئن قلوبهم فيما يرونه من أحوال الرزق في أنفسهم، و في غيرهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يبسط الرزق لمن يشاء عن خبرة وبصر، ويقدر الرزق لمن يشاء عن خبرة وبصر. ويأمر بالقصد والاعتدال، وينهى عن البخل والسرف، وهو الخبير البصير بالأقوم في جميع الأحوال؛ وقد أنزل هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في جميع الأحوال.
الله الذي لا تنفد خزائنه يعطي خلقه بقدرٍ، فلا يبسط لهم الرزق كل البسط، ولا يقبضه عنهم كل القبض، بل يبسط على قوم، ويقبض على آخرين لتسير حركة الحياة؛ لأنه سبحانه لو بسط الرزق ووسعه على جميع الناس لاستغنى الناس عن الناس، وحدثت بينهم مقاطعة تفسد عليهم حياتهم. إنما حركة الحياة تتطلب أن يحتاج صاحب المال إلى عمل، وصاحب العمل إلى مال، فتلتقي حاجات الناس بعضهم لبعض، وبذلك يتكامل الناس، ويشعر كل عضو في المجتمع بأهميته ودوره في الحياة.