أن جاءه الأعمى : لأن الأعمى جاء عنده .
عبس : قطّب وجهه من ضيق الصدر .
نزلت هذه السورةُ الكريمة في عبدِ الله بن أُم مكتوم ابن خالِ خديجة بنتِ خويلد رضي الله عنها ، وكان رجلاً أعمى ، ومن أول الناس إسلاما . وكان من المهاجرين الأولين والمؤذِّنَ الثاني لرسول الله ، وقد استخلفه الرسولُ الكريم على المدينة ، وكان يصلّي بالناس مرارا . وقد جاء هذا الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وعنده جماعة من زعماءِ قريش منهم : عتبة وشَيبة ابنا ربيعة ، وأبو جهلٍ عمرو بن هشام ، والعباسُ بن عبد المطلب ، وأُميةُ بن خلف ، والوليدُ بن المغيرة . وكان النبي الكريم محتفياً بهم يدعوهم إلى الإسلام ويرغّبهم فيه رجاءَ أن يُسلموا ، لأنه يعلم أنهم إذا أسلموا تَبِعَهم خَلْقٌ كثير .
فجاء ابنُ أُم مكتوم وقال : يا رسولَ الله ، أرشِدني ، وعلِّمني مما علمك الله . . وكرر ذلك وهو لا يعلم من عنده . فكره الرسولُ قَطْعَه لكلامه ، وظهر ذلك على وجهه ، إذ عَبَسَ وأعرض عنه .
وقد عاتب الله نبيَّه الكريمَ بأنّ ضَعْفَ ذلك الأعمى وفقره لا ينبغي أن يكون باعثاً على كراهةِ كلامه والإعراضِ عنه ، فإنه حيُّ القلب ذكيُّ الفؤاد ، إذا سمع الحكمةَ وعاها ، فيتطهَّرُ بها من أوضارِ الشِرك .
" أن جاءه " " أن " في موضع نصب لأنه مفعول له ، المعنى لأن جاءه الأعمى ، أي الذي لا يبصر بعينيه . فروى أهل التفسير أجمع أن قوما من أشراف قريش كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم وقد طمع في إسلامهم ، فأقبل عبد الله بن أم مكتوم ، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقطع عبد الله عليه كلامه ، فأعرض عنه ، ففيه نزلت هذه الآية . قال مالك : إن هشام بن عروة حدثه عن عروة ، أنه قال : نزلت " عبس وتولى " في ابن أم مكتوم ، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يقول : يا محمد استدنني{[15795]} ، وعند النبي صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه ويقبل على الآخر ، ويقول : [ يا فلان ، هل ترى بما أقول بأسا ] ؟ فيقول : [ لا والدمى{[15796]} ما أرى بما تقول بأسا{[15797]} ] ؛ فأنزل الله : " عبس وتولى " . وفي الترمذي مسندا قال : حدثنا سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي ، حدثني أبي ، قال هذا ما عرضنا على هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ، قالت : نزلت " عبس وتولى " في ابن أم مكتوم الأعمى ، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول : يا رسول الله أرشدني ، وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عنه ، ويقبل على الآخر ، ويقول : [ أترى بما أقول بأسا ] فيقول : لا ، ففي هذا نزلت . قال : هذا حديث غريب .
الثانية- الآية عتاب من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في إعراضه وتوليه عن عبد الله بن أم مكتوم . ويقال : عمرو بن أم مكتوم ، واسم أم مكتوم عاتكة بنت عامر بن مخزوم ، وعمرو هذا : هو ابن قيس بن زائدة بن الأصم ، وهو ابن خال خديجة رضي الله عنها . وكان قد تشاغل عنه برجل من عظماء المشركين ، يقال كان الوليد بن المغيرة . قال ابن العربي : أما قول علمائنا إنه الوليد بن المغيرة فقد قال آخرون إنه أمية بن خلف والعباس وهذا كله باطل وجهل من المفسرين الذين لم يتحققوا الدين ، ذلك أن أمية بن خلف والوليد كانا بمكة وابن أم مكتوم كان بالمدينة ، ما حضر معهما ولا حضرا معه ، وكان موتهما كافرين ، أحدهما قبل الهجرة ، والآخر ببدر ، ولم يقصد قط أمية المدينة ، ولا حضر عنده مفردا ، ولا مع أحد .
الثالثة- أقبل ابن أم مكتوم والنبي صلى الله عليه وسلم مشتغل بمن حضره من وجوه قريش يدعوهم إلى الله تعالى ، وقد قوي طمعه في إسلامهم وكان في إسلامهم إسلام من وراءهم من قومهم ، فجاء ابن أم مكتوم وهو أعمى فقال : يا رسول الله علمني مما علمك الله ، وجعل يناديه ويكثر النداء ، ولا يدري أنه مشتغل بغيره ، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لقطعه كلامه ، وقال في نفسه : يقول هؤلاء : إنما أتباعه العميان والسفلة والعبيد ، فعبس وأعرض عنه ، فنزلت الآية . قال الثوري : فكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا رأى ابن أم مكتوم يبسط له رداءه ويقول : ( مرحبا بمن عاتبني فيه ربي ) . ويقول : ( هل من حاجة ) ؟ واستخلفه على المدينة مرتين في غزوتين غزاهما . قال أنس : فرأيته يوم القادسية راكبا وعليه درع ومعه راية سوداء .
الرابعة- قال علماؤنا : ما فعله ابن أم مكتوم كان من سوء الأدب لو كان عالما بأن النبي صلى الله عليه وسلم مشغول بغيره ، وأنه يرجو إسلامهم ، ولكن الله تبارك وتعالى عاتبه حتى لا تنكسر قلوب أهل الصفة ، أو ليعلم أن المؤمن الفقير خير من الغني ، وكان النظر إلى المؤمن أولى وإن كان فقيرا أصلح وأولى من الأمر الآخر ، وهو الإقبال على الأغنياء طمعا في إيمانهم ، وإن كان ذلك أيضا نوعا من المصلحة ، وعلى هذا يخرج قوله تعالى : " ما كان لنبي أن يكون له أسرى " [ الأنفال : 67 ] الآية على ما تقدم{[15798]} . وقيل : إنما قصد النبي صلى الله عليه وسلم تأليف الرجل ، ثقة بما كان في قلب ابن مكتوم من الإيمان ، كما قال : ( إني لأصل الرجل وغيره أحب إلي منه ، مخافة أن يكبه الله في النار على وجهه ) .
الخامسة- قال ابن زيد : إنما عبس النبي صلى الله عليه وسلم لابن أم مكتوم وأعرض عنه ؛ لأنه أشار إلى الذي كان يقوده أن يكفه ، فدفعه ابن أم مكتوم ، وأبي إلا أن يكلم النبي صلى الله عليه وسلم حتى يعلمه ، فكان في هذا نوع جفاء منه . ومع هذا أنزل الله في حقه على نبيه صلى الله عليه وسلم : " عبس وتولى " بلفظ الإخبار عن الغائب ، تعظيما{[15799]} له ولم يقل : عبست وتوليت .
لأجل-{[71592]} { أن جاءه الأعمى * } الذي ينبغي أن يبالغ في العطف عليه وفي إكرامه جبراً لكسره واعترافاً بحقه في مجيئه ، وذكره{[71593]} بالوصف للإشعار بعذره{[71594]} في الإقدام على قطع الكلام والبعث على الرأفة به-{[71595]} والرحمة له ، فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا رآه بعد ذلك قال : " مرحباً بمن عاتبني فيه ربي " واستخلفه على المدينة الشريفة عند غزوه مرتين ، قال أنس بن مالك رضي الله عنه{[71596]} : ورأيته يوم القادسية عليه درع ومعه راية سوداء رضي الله عنه .