تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{أَن جَآءَهُ ٱلۡأَعۡمَىٰ} (2)

الآيتان 1 و2 : قوله تعالى : { عبس وتولى } { أن جاءه الأعمى } ذكر الحسن أن تعبس الوجه والتولي كانا بنفس المجيء على ظاهر الآية ، فإنه ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عنده عظماء المشركين ، يعظهم ، ويدعوهم إلى الإسلام . فلما جاءه ابن أم مكتوم ، يسأله ، أعرض عنه لمكان أولئك القوم ، وعبّس وجهه رجاء إسلامهم .

وذكر غيره من أهل التفسير أنه { عبس وتولى } لما سأله ابن أم مكتوم عما فيه رشده وهداه ، فعبس وجهه بقطعه الحديث .

ثم هذا التعبس من عليه السلام ، كان في أمر ، لو التام ، ثم وزن ذلك بخيرات أهل الأرض لرجح على خيراتهم ومحاسنهم لأنه ذكر أنه كان مقبلا على رؤساء الكفرة ، يعظهم ، ويحرضهم على الإسلام رجاء أن يسلموا ، فيكون في إسلامهم رجاء إسلام كثير من القوم ، لأنهم كانوا من عليّة القوم وعظمائهم ، فكان في إسلامهم رجاء إسلام من يتبعهم من قومهم ، فيستوجب بإسلامهم من جزيل الثواب وعظم المنزلة مالا يبلغه آخر بجميع محاسنه ؟ ، فكان في سؤاله إياه منع ما قصد إليه من إحراز جزيل الثواب وكريم الخصال .

وإذا كان هكذا [ ففيه وجهان :

أحدهما : أن تعبّس ]{[23109]} الوجه [ في ]{[23110]} مثل هذا الحال أمر سهل ، لا يستبعد ، ولا يستنكر .

والثاني : أن تعبس الوجه على الأعمى والإعراض عنه ، لا يظهر للأعمى ، لأنه لا يراه ، فلا يعده جفاء ، وكان في إقباله على أولئك القوم وحسن صحبته إياهم رجاء الإسلام منهم ؛ إذ إقباله وحسن صحبته يظهر لهم ، وفي الإعراض عنهم ذهاب ذلك الرجاء وإبداء الجفاء منه إياهم .

ومن آثر الوجه الذي فيه اتقاء الجفاء والدعاء من الردع إلى الهدى وصلاح الدين فهو محمود عند ذوي الأحلام والنهي ، ولأن إقباله على القوم إذا كان لمكان دعائهم إلى الإسلام ، وقد أمرنا بدعاء الكفرة إلى الإسلام ، وإن كان في دعائهم إتلاف أنفسنا وأموالنا ، فلأن يسوغ الدعاء من وجه ، ليس فيه تعبيس الوجه على واحد من المسلمين أولى .

ولكن النبي صلى الله عليه وسلم/626 – أ/وجد منه هذا النوع من الإيثار اجتهادا ورأيا ، والأنبياء عليهم السلام ، قد جاءهم العتاب من الله تعالى بتعاطيهم أمورا ، لم يسبق من الله تعالى لهم الإذن في ذلك ، وإن كان الذي تعاطوه من الأمور أمورا محمودة في تدبير الخلق نحو ما عوتب يونس عليه السلام ، وعوقب بمفارقة قومه بغير إذن ، وإن كان مثل تلك المفارقة ، لو وجد من واحد من أهل الأرض استوجب بها الحمد وحسن الثناء ، لأن تلك المفارقة لا تخلو من تلك الأمور الثلاثة{[23111]} :

أحدها : أن قومه كانوا أهل كفر ، وكانوا له أعداء في الدين ، ففارقهم لينجو منهم ، ويسلم له دينه ، ومثل هذا لو وجد من غير الأنبياء عليهم السلام ، عد ذلك من أفضل شمائله .

والثاني : أن في مفارقته من بين أظهرهم [ تخويفا لهم وتهويلا ]{[23112]} فيدعوهم ذلك إلى الانقلاع عما هم عليه من الضلال والفزع إلى الله تعالى ، ومن خوف آخر بأمر ، يكون فيه دعاؤه إلى الهدى وردعه عن الضلال ، فقد أبلغ في النصيحة{[23113]} واستقام على الطريقة .

والثالث : أنه يفارقهم ليستنصر بغيرهم{[23114]} ، فينصرونه عليهم ، ويتقوى بهم ليكون على دعائهم إلى الإسلام أمكن وأقدر . ومن كانت مفارقته من قومه على هذه النية فلنعم المفارقة هو ، ثم عوقب مع ذلك كله .

وذكر الله تعالى في الكتاب قصته للوجه الذي ذكرنا . فكذلك الوجه في معاتبة نبينا محمد عليه السلام .

ومنهم من ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد إلى تعبس الوجه على ابن أم مكتوم ، ولا تولى عنه عمدا لذلك . لكن لما قطع عليه حديثه ، وكان فيه قطع رجاء إسلام أولئك القوم ، شق ذلك عليه ، واعتراه من ذلك هم شديد أثر ذلك في وجهه ، لا أن كان منه ذلك على القصد .

ووجه آخر أن يقال : إن الله تعالى جعل في قلبه صلى الله عليه وسلم من الشفقة والرحمة على العالمين حتى بلغ من شفقته أن كادت نفسه تذهب على من [ أعرض عن ]{[23115]} دين الله تعالى والإيمان به حسرات عليه ، وحتى قال{[23116]} له : { لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين } [ الشعراء : 3 ] وقال : { ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون } [ النمل : 70 ] وقال : { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } [ فاطر : 8 ] .

وتأويله : ألا تحزن بمكانهم كل هذا الحزن ، فيكون فيه تخفيف الأمر عليه لا أن يكون فيه نهي عن الحزن وعن الحسرة . ولذلك قال : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك } [ التحريم : 1 ] ومعناه ، والله أعلم : ألا تحمل نفسك كل هذا التحميل حتى تمتنع عن الانتفاع عن الانتفاع بما أحل الله لك الانتفاع به طلبا لمرضاتهن ، لا أن ينهاه عن ابتغاء مرضاتهن ، بل قد ندبه{[23117]} إلى ابتغاء مرضاتهن بقوله : { ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن } الآية [ الأحزاب : 51 ] .

فجائز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتد عليه إعراض أولئك القوم عن الإيمان ، وكبر ذلك عليه حتى تغير لون وجهه ، فنزل قوله تعالى : { عبس وتولى } يبين شدة ما اعتراه من الهم حتى أثر ذلك في وجهه ، لا أن يكون فيه مذمة ومنقصة .

ثم في هذه الآية فوائد أخر :

إحداها{[23118]} : جواز العمل بالاجتهاد ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل النوع اجتهادا لا نصا ؛ إذ لو كان الإذن بالتولي والتعبيس سائغا لم يكن يعاقب بفعل ما قد أمر به .

فإن قيل : كيف لا تدل المعاتبة على النهي على إقدامه [ على ]{[23119]} مثله ، فيحرم عليه الاجتهاد ؟ قيل{[23120]} له : لو كان نهيا لم يكن يعود إلى العمل بالاجتهاد بعد ذلك ، وقد وجد منه عليه السلام ، العود بقوله تعالى : { عفا الله عنك لم أذنت لهم } [ التوبة : 43 ] وبقوله{[23121]} : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } [ التحريم : 1 ] . فثبت أنه ليس فيه نهي ، وفيه أن الكافر/ وإن كان مبجلا معظما في قومه ، فليس على المؤمنين أن يعظموه ، ويبجلوه ، بل يسترذل ، ويستخف به ، وأن المسلم ينبغي أن يعظم ، ويكرم ، وإن كان حقيرا في أعين الخلق .

[ الثانية : ]{[23122]} آية رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ودلالة نبوته ، وأنه لم يختلق هذا الكتاب من عند نفسه ؛ لأن من يتعاطى فعلا ، حقه السر ، فهو يستره على نفسه ، ولا يهتك عليها الستر ، لئلا يلزم عليه . فلو لم يكن مأمورا بتبليغ الرسالة لكان يجتهد في السر على نفسه ، فلا ينبذه للخلائق . ولكنه كان رسولا لم يجد من تبليغه إلى الخلق بدّا ، فبلغه كما أمر .


[23109]:في الأصل وم: فتعبس.
[23110]:ساقطة من الأصل وم.
[23111]:من م: ساقطة من الأصل.
[23112]:في الأصل وم: تخويف لهم وتهويل.
[23113]:في الأصل وم: الصحبة.
[23114]:في الأصل وم: بغيره.
[23115]:من م: ساقطة من الأصل.
[23116]:في الأصل وم: قيل.
[23117]:في الأصل وم: ندب
[23118]:في الأصل وم: أحدها.
[23119]:ساقطة من الأصل وم.
[23120]:في الأصل وم: وقيل.
[23121]:الواو ساقطة من الأصل وم.
[23122]:في الأصل وم: وفيه.