جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وَشَدَدْنا مُلْكَهُ": اختلف أهل التأويل في المعنى الذي به شدّد ملكه؛ فقال بعضهم: شدّد ذلك بالجنود والرجال...
وقال آخرون: كان الذي شدد به ملكه، أن أُعطِيَ هيبة من الناس له لقضية كان قضاها...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تبارك وتعالى أخبر أنه شَدّد ملك داود، ولم يحضر ذلك من تشديده على التشديد بالرجال والجنود دون الهيبة من الناس له، ولا على هيبة الناس له دون الجنود. وجائز أن يكون تشديده ذلك كان ببعض ما ذكرنا، وجائز أن يكون كان بجميعها، ولا قول أولى في ذلك بالصحة من قول الله، إذ لم يحصُرْ ذلك على بعض معاني التشديد خبر يجب التسليم له.
وقوله: "وآتَيْناهُ الحِكْمَةَ "اختلف أهل التأويل في معنى الحكمة في هذا الموضع؛ فقال بعضهم: عُني بها النبوّة...
وقال آخرون: عُني بها أنه علم السنن...
وقد بيّنا معنى الحكمة في غير هذا الموضع بشواهده، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله: "وفَصْلَ الخِطابِ "اختلف أهل التأويل في معنى ذلك؛
فقال بعضهم: عني به أنه علم القضاء والفهم به...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وفصل الخطاب، بتكليف المدّعي البينة، واليمين على المدّعَى عليه...
وقال آخرون: بل هو قولُ: أما بعد...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر أنه آتى داود صلوات الله عليه فصل الخطاب، والفصل: هو القطع، والخطاب هو المخاطبة، ومن قطع مخاطبة الرجل الرجل في حال احتكام أحدهما إلى صاحبه قطع المحتكم إليه الحكم بين المحتكم إليه وخصمه بصواب من الحكم، ومن قطع مخاطبته أيضا صاحبه إلزام المخاطب في الحكم ما يجب عليه إن كان مدعيا، فإقامة البينة على دعواه وإن كان مدعى عليه فتكليفه اليمين إن طلب ذلك خصمه. ومن قطع الخطاب أيضا الذي هو خطبة عند انقضاء قصة وابتداء في أخرى الفصل بينهما بأما بعد. فإذ كان ذلك كله محتملاً ظاهر الخبر ولم تكن في هذه الآية دلالة على أيّ ذلك المرادُ، ولا ورد به خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ثابت، فالصواب أن يعم الخبر، كما عمه الله، فيقال: أُوتي داود فصل الخطاب في القضاء والمحاورة والخطب.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال عامة أهل التأويل في قوله: {وشددنا ملكه}: لأنه كان يحرسه كل ليلة ثلاثة وثلاثون ألفا من بني إسرائيل. لكن ليس في ما ذكروا كثير شد الملك وتقويته، إنما هو وصف ضعيف إلا أن يعنوا بما ذكروا كثرة أعوانه وأنصاره وفضل أتباعه وحواشيه، فعند ذلك يحتمل ما ذكروا من الحرس والحفظ.
وجائز أن يكون غير هذا أشبه له وأولى بما ذكر ملكه، وهو يخرج على وجهين: أحدهما: شد ملكه مما ذكر من إلانة الحديد حتى كان يتخذ منه لباسا من الدروع وغيرها من أسباب الحرب والتأهب لها، وما يصلح للقتال ما لم يعط مثله لأحد سواه، فينقطع بذلك طمع الطامعين لهم في ذلك والراغبين في ملكه، ويأمن هو بذلك ذهابه، فهو شد ملكه.
والثاني: شد ملكه بما ذكر من تسخير الجبال له والطير والتسبيح معه وما ذكر من طاعة هذه الأشياء له والخضوع لأمره، فمن بلغ ملكه هذا المبلغ الذي وصف من طاعة من ذكره والتسخير له وعبادته لله تعالى، وطاعته لربه في نفسه حين قال عز وجل: {واذكر عبدنا داوود ذا الأيد إنه أواب} لم يقصد أحد من ملوك الأرض قصده، ولا طمع في زوال ملكه إليه بحال. فهذا أشبه أن يجعل تأويل شد ملكه الذي ذكر، مما قاله أهل التأويل.
{وآتيناه الحكمة} قال بعض أهل التأويل: أي النبوة {وفصل الخطاب} أي البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه. لكن ليس في ما ذكروا من جعل البينة على المدعي وجعل اليمين على المنكر كثير منقبة وخصوصية إذ قد أعطينا نحن مثله، وقد ذكر على الخصوصية له، ثم جائز أن يكون ما ذكر من الحكمة التي أتاها له إحكام أمره في ما بينه وبين ربه في العبادة والطاعة له في كل وقت على ما وصفه حين قال: {ذا الأيد إنه أواب} أي ذا القوة والجهد في العبادة لله والطاعة له فيهم وإنزال كل منهم منزلة وتأليف قلوب بعضهم من بعض وجمعهم على دين واحد ومذهب واحد حتى لم يقع تنازع ولا خلاف. وعلى ذلك يخرج قوله عز وجل {وفصل الخطاب} أي قطع الخصومات في ما بينهم على التأليف والتلطيف وإيصال كل إلى حقه من غير أن يقع بينهم خشونة أو ضغن...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ}:... وقال أبو العالية: العلم الذي لا تردّه العقول...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
شددنا مُلْكَه بنصرنا له ودَفْعِنا البلاَءَ عنه، ويقال شدنا مُلْكَه بالعدل في القضية، وحُسْنِ السيرة في الرعية. ويقال شددنا ملكه بقبض أيدي الظَّلَمَة. ويقال شددنا ملكه بدعاء المستضعفين. ويقال شددنا مُلْكَه بأن رأى النصرةَ مِنَّا، وَتَبرَّأَ من حَوْلِه وقُوَّتِه. ويقال بوزراء ناصحين كانوا يدلُّونه على ما فيه صلاح مُلْكه. ويقال بِتَيَقُّظِه وحُسْنِ سياسته. ويقال بقبوله الحق من كلِّ أحد. ويقال برجوعه إلينا في عموم الأوقات...
{وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ}: أعطيناه الرُّشْدَ والصوابَ، والفَهْمَ والإصابة. ويقال العلم بنفْسِه وكيفية سياسة أمته. ويقال الثبات في الأمور والحكمة، وإِحكام الرأي والتدبُّر. ويقال صحبة الأبرار، ومجانبة الأشرار...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{وشددنا ملكه} عبارة عامة لجميع ما وهبه الله تعالى من قوة وخير ونعمة...
واختلف الناس في {فصل الخطاب}... والذي يعطيه لفظ الآية أن الله تعالى آتاه أنه كان إذا خاطب في نازلة فصل المعنى وأوضحه وبينه، لا يأخذه في ذلك حصر ولا ضعف، وهذه صفة قليل من يدركها، وقد قال الله تعالى في صفة القرآن: {إنه لقول فصل} [الطارق: 13]،ويزيد محمد صلى الله عليه وسلم على هذه الدرجة بالإيجاز في العبارة وجمع المعاني الكثيرة في اللفظ اليسير، وهذا هو الذي تخصص عليه السلام في قوله: «وأعطيت جوامع الكلم».
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الشَّدُّ عِبَارَةٌ عَنْ كَثْرَةِ الْقَدْرِ، وَعِنْدِي أَنَّ مَعْنَاهُ شَدَدْنَاهُ بِالْعَوْنِ وَالنُّصْرَةِ، وَلَا يَنْفَعُ الْجَيْشُ الْكَثِيرُ الْتِفَافُهُ عَلَى غَيْرِ مَنْصُورٍ وَغَيْرِ مُعَانٍ...
{وآتيناه الحكمة} اعلم أنه تعالى قال: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا} واعلم أن الفضائل على ثلاثة أقسام النفسانية والبدنية والخارجية، والفضائل النفسانية محصورة في قسمين العلم والعمل، أما العلم فهو أن تصير النفس بالتصورات الحقيقية والتصديقات النفسانية بمقتضى الطاقة البشرية، وأما العمل فهو أن يكون الإنسان آتيا بالعمل الأصلح الأصوب بمصالح الدنيا والآخرة، فهذا هو الحكمة وإنما سمي هذا بالحكمة لأن اشتقاق الحكمة من إحكام الأمور وتقويتها وتبعيدها عن أسباب الرخاوة والضعف، والاعتقادات الصائبة الصحيحة لا تقبل النسخ والنقض فكانت في غاية الإحكام،
وأما الأعمال المطابقة لمصالح الدنيا والآخرة فإنها واجبة الرعاية، ولا تقبل النقض والنسخ، فلهذا السبب سمينا تلك المعارف وهذه الأعمال بالحكمة...
{وفصل الخطاب}...لما بين الله تعالى كمال حال جوهر النفس النطقية التي لداود بقوله: {وآتيناه الحكمة} أردفه ببيان كمال حاله في النطق واللفظ والعبارة فقال وفصل الخطاب وهذا الترتيب في غاية الجلالة، ومن المفسرين من فسر ذلك بأن داود أول من قال في كلامه أما بعد، وأقول حقا إن الذين يتبعون أمثال هذه الكلمات فقد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرمانا عظيما.
وقول من قال المراد معرفة الأمور التي بها يفصل بين الخصوم وهو طلب البينة واليمين فبعيد أيضا، لأن فصل الخطاب عبارة عن كونه قادرا على التعبير عن كل ما يخطر بالبال ويحضر في الخيال، بحيث لا يختلط شيء بشيء، وبحيث ينفصل كل مقام عن مقام، وهذا معنى عام يتناول جميع الأقسام.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان هذا دالاً على الملك من حيث أنه التصرف في الأشياء العظيمة قسراً، فكان كأنه قيل: كل ذلك إثباتاً لنبوته وتعظيماً لملكه، قال: {وشددنا} أي بما لنا من العظمة {ملكه} بغير ذلك مما يحتاج إليه الملك...، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان أشد ملوك الأرض سلطاناً.
ولما كان أعظم المثبتات للملك المعرفة قال: {وآتيناه} أي بعظمتنا {الحكمة} أي النبوة التي ينشأ عنها العلم بالأشياء على ما هي عليه، ووضع الأشياء في أحكم مواضعها، فالحكمة العمل بالعلم.
ولما كان تمامه بقطع النزاع قال: {وفصل الخطاب} أي ومعرفة الفرق بين ما يلتبس في كلام المخاطبين له من غير كبير روية في ذلك، بل يفرق بديهة بين المتشابهات بحيث لا يدع لبساً يمكن أن يكون معه نزاع لغير معاند، وكسوناه عزاً وهيبة ووقاراً يمنع أن يجترئ أحد على العناد في شيء من أمره بعد ذلك البيان الذي فصل بين المتشابهات، وميز بين المشكلات الغامضات، وإذا تكلم وقف على المفاصل، فيبين من سرده للحديث معانيه، ويضع الشيء في أحكم مبانيه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الشد: الإِمساك وتمكّن اليد مما تمسكه، فيكون لقصد النفع كما هنا، ويكون لقصد الضرّ كقوله: {واشدد على قلوبهم في سورة} [يونس: 88]، فشدّ الملك هو تقوية ملكه وسلامته من أضرار ثورة لديه ومن غلبة أعدائه عليه في حروبه، وقد ملك داود أربعين سنة ومات وعمره سبعون سنة في ظل ملك ثابت...
والحكمة في الأعم: العلم بالأشياء كما هي والعمل بالأمور على ما ينبغي.
قوله تعالى : " وشددنا ملكه " أي قويناه حتى ثبت . قيل : بالهيبة وإلقاء الرعب منه في القلوب . وقيل : بكثرة الجنود . وقيل : بالتأييد والنصر . وهذا اختيار ابن العربي . فلا ينفع الجيش الكثير التفافه على غير منصور وغير معان . وقال ابن عباس رضي الله عنه : كان داود أشد ملوك الأرض سلطانا . كان يحرس محرابه كل ليلة نيف وثلاثون ألف رجل فإذا أصبح قيل : ارجعوا فقد رضي عنكم نبي الله . والملك عبارة عن كثرة الملك ، فقد يكون للرجل ملك ولكن لا يكون ملكا حتى يكثر ذلك ، فلو ملك الرجل دارا وامرأة لم يكن ملكا حتى يكون له خادم يكفيه مؤنة التصرف في المنافع التي يفتقر إليها لضرورته الآدمية . وقد مضى هذا المعنى في " براءة " وحقيقة الملك في " النمل " مستوفى .
الأولى- قوله تعالى : " وآتيناه الحكمة " أي النبوة . قاله السدي . مجاهد : العدل . أبو العالية : العلم بكتاب الله تعالى . قتادة : السنة . شريح : العلم والفقه . " وفصل الخطاب " قال أبو عبدالرحمن السلمي وقتادة : يعني الفصل في القضاء . وهو قول ابن مسعود والحسن والكلبي ومقاتل . وقال ابن عباس : بيان الكلام . علي بن أبي طالب : هو البينة على المدعي واليمين على من أنكر . وقاله شريح والشعبي وقتادة أيضا . وقال أبو موسى الأشعري والشعبي أيضا : هو قوله أما بعد ، وهو أول من تكلم بها . وقيل : " فصل الخطاب " البيان الفاصل بين الحق والباطل . وقيل : هو الإيجاز بجعل المعنى الكثير في اللفظ القليل . والمعنى في هذه الأقوال متقارب . وقول علي رضي الله عنه يجمعه ؛ لأن مدار الحكم عليه في القضاء ما عدا قول أبي موسى .
الثانية- قال القاضي أبو بكر بن العربي : فأما علم القضاء فلعمر إلهك إنه لنوع من العلم مجرد ، وفصل منه مؤكد ، غير معرفة الأحكام والبصر بالحلال والحرام ، ففي الحديث : ( أقضاكم علي وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ) . وقد يكون الرجل بصيرا بأحكام الأفعال ، عارفا بالحلال والحرام ، ولا يقوم بفصل القضاء . يروى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : لما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن حفر قوم زبية للأسد ، فوقع فيها الأسد ، وازدحم الناس على الزبية فوقع فيها رجل وتعلق بآخر ، وتعلق الآخر بآخر ، حتى صاروا أربعة ، فجرحهم الأسد فيها فهلكوا ، وحمل القوم السلاح وكاد يكون بينهم قتال ، قال فأتيتهم فقلت : أتقتلون مائتي رجل من أجل أربعة أناس ! تعالوا أقض بينكم بقضاء ، فإن رضيتموه فهو قضاء بينكم ، وإن أبيتم رفعتم ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أحق بالقضاء . فجعل للأول ربع الدية ، وجعل للثاني ثلث الدية ، وجعل للثالث نصف الدية ، وجعل للرابع الدية ، وجعل الديات على من حفر الزبية على قبائل الأربعة ، فسخط بعضهم ورضي بعضهم ، ثم قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصوا عليه القصة ، فقال : ( أنا أقضي بينكم ) فقال قائل : إن عليا قد قضى بيننا . فأخبروه بما قضى علي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( القضاء كما قضى علي ) في رواية : فأمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاء علي .
وكذلك يروى في المعرفة بالقضاء أن أبا حنيفة جاء إليه رجل فقال : إن ابن أبي ليلى - وكان قاضيا بالكوفة - جلد امرأة مجنونة قالت لرجل يا ابن الزانيين حدين في المسجد وهي قائمة . فقال : أخطأ من ستة أوجه . قال ابن العربي : وهذا الذي قال أبو حنيفة بالبديهة لا يدركه أحد بالرؤية إلا العلماء . فأما قضية علي فلا يدركها الشادي ، ولا يلحقها بعد التمرن في الأحكام إلا العاكف المتمادي . وتحقيقها أن هؤلاء الأربعة المقتولين خطأ بالتدافع على الحفرة من الحاضرين عليها ، فلهم الديات على من حضر على وجه الخطأ ، بيد أن الأول مقتول بالمدافعة قاتل ثلاثة بالمجاذبة ، فله الدية بما قتل ، وعليه ثلاثة أرباع الدية بالثلاثة الذين قتلهم . وأما الثاني فله ثلث الدية وعليه الثلثان بالاثنين اللذين قتلهما بالمجاذبة . وأما الثالث فله نصف الدية وعليه النصف ؛ لأنه قتل واحدا بالمجاذبة فوقعت المحاصة وغرمت العواقل هذا التقدير بعد القصاص الجاري فيه . وهذا من بديع الاستنباط . وأما أبو حنيفة فإنه نظر إلى المعاني المتعلقة فرآها ستة : الأول : أن المجنون لا حد عليه ؛ لأن الجنون يسقط التكليف . وهذا إذا كان القذف في حالة الجنون ، وأما إذا كان يجن مرة ويفيق أخرى فإنه يحد بالقذف في حالة إفاقته . والثاني : قولها يا ابن الزانيين فجلدها حدين لكل أب حد ، فإنما خطأه أبو حنيفة على مذهبه في أن حد القذف يتداخل ؛ لأنه عنده حق لله تعالى كحد الخمر والزنى ، وأما الشافعي ومالك فإنهما يريان أن الحد بالقذف حق للآدمي ، فيتعدد بتعدد المقذوف . الثالث : أنه جلد بغير مطالبة المقذوف ، ولا تجوز إقامة حد القذف بإجماع من الأمة إلا بعد المطالبة بإقامته ممن يقول إنه حق لله تعالى ، ومن يقول إنه حق الآدمي . وبهذا المعنى وقع الاحتجاج لمن يرى أنه حق للآدمي ؛ إذ لو كان حقا لله لما توقف على المطالبة كحد الزنى . الرابع : أنه والى بين الحدين ، ومن وجب عليه حدان لم يوال بينهما ، بل يحد لأحدهما ثم يترك حتى يندمل الضرب ، أو يستبل المضروب ثم يقام عليه الحد الآخر . الخامس : أنه حدها قائمة ، ولا تحد المرأة إلا جالسة مستورة ، قال بعض الناس : في زنبيل . السادس : أنه أقام الحد في المسجد ولا تقام الحدود فيه إجماعا . وفي القضاء في المسجد والتعزير فيه خلاف . قال القاضي : فهذا هو فصل الخطاب وعلم القضاء ، الذي وقعت الإشارة إليه على أحد التأويلات في الحديث المروي ( أقضاكم علي ) . وأما من قال : إنه الإيجاز فذلك للعرب دون العجم ، ولمحمد صلى الله عليه وسلم دون العرب ، وقد بين هذا بقوله : ( وأوتيت جوامع الكلم ) . وأما من قال : إنه قوله أما بعد ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته : ( أما بعد ) . ويروى أن أول من قالها في الجاهلية سحبان بن وائل ، وهو أول من آمن بالبعث ، وأول من توكأ على عصا ، وعمر مائة وثمانين سنة . ولو صح أن داود عليه السلام قالها ، لم يكن ذلك منه بالعربية على هذا النظم ، وإنما كان بلسانه . والله أعلم .
ولما كان هذا دالاً على الملك من حيث أنه التصرف في الأشياء العظيمة قسراً ، فكان كأنه قيل : كل ذلك إثباتاً لنبوته وتعظيماً لملكه ، قال : { وشددنا } أي بما لنا من العظمة { ملكه } بغير ذلك مما يحتاج إليه الملك ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان أشد ملوك الأرض سلطاناً .
ولما كان أعظم المثبتات للملك المعرفة قال : { وآتيناه } أي بعظمتنا { الحكمة } أي النبوة التي ينشأ عنها العلم بالأشياء على ما هي عليه ، ووضع الأشياء في أحكم مواضعها ، فالحكمة العمل بالعلم . ولما كان تمامه بقطع النزاع قال : { وفصل الخطاب * } أي ومعرفة الفرق بين ما يلتبس في كلام المخاطبين له من غير كبير روية في ذلك ، بل يفرق بديهة بين المتشابهات بحيث لا يدع لبساً يمكن أن يكون معه نزاع لغير معاند وكسوناه عزاً وهيبة ووقاراً يمنع أن يجترىء أحد على العناد في شيء من أمره بعد ذلك البيان الذي فصل بين المتشابهات ، وميز بين المشكلات الغامضات ، وإذا تكلم وقف على المفاصل ، فيبين من سرده للحديث معانيه ، ويضع الشيء في أحكم مبانيه .