الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{كَذَٰلِكَ حَقَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى ٱلَّذِينَ فَسَقُوٓاْ أَنَّهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (33)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: كما قد صرف هؤلاء المشركون عن الحقّ إلى الضلال، "كَذلكَ حَقّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ "يقول: وجب عليهم قضاؤه وحكمه في السابق من علمه، "على الّذِينَ فَسَقُوا" فخرجوا من طاعة ربهم إلى معصيته وكفروا به "أنّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ" يقول: لا يصدقون بوحدانية الله ولا بنبوّة نبيه صلى الله عليه وسلم.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

سَبَق لهم الحُكْمُ، وصَدَقَ فيهم القولُ؛ فلا لِحُكْمِه تحويل ولا لقوله تبديل.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{كَذَلِكَ} مثل ذلك الحق {حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ} أي كما حق وثبت أنّ الحق بعده الضلال، أو كما حق أنهم مصروفون عن الحق، فكذلك حقّت كلمة ربك {عَلَى الذين فَسَقُواْ} أي تمرّدوا في كفرهم وخرجوا إلى الحدّ الأقصى فيه، و {أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} بدل من الكلمة أي حقّ عليهم انتفاء الإيمان، وعلم الله منهم ذلك. أو حق عليهم كلمة الله أنهم من أهل الخذلان، وأن إيمانهم غير كائن. أو أراد بالكلمة: العدة بالعذاب، و"أنهم لا يؤمنون" تعليل، بمعنى: لأنهم لا يؤمنون.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

وقوله: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} أي: كما كفر هؤلاء المشركون واستمروا على شركهم وعبادتهم مع الله غيره، مع أنهم يعترفون بأنه الخالق الرازق المتصرف في الملك وحده، الذي بعث رسله بتوحيده؛ فلهذا حقت عليهم كلمة الله أنهم أشقياء من ساكني النار، كقوله: {قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر: 71].

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كانوا جديرين عند تقريرهم بهذه الآية وإقرارهم بمضمونها بأن يقولوا: سلمنا فأسلمنا ولا نصرف عن الحق أبداً، فلم يقولوا، كانوا حقيقيين بأن يقال لهم: حقت عليكم كلمة الله لفسقكم وزوغانكم عن الحق. فقيل: هل خصوا بذلك؟ فقيل: بل {كذلك} أي مثل ذلك الحقوق العظيم {حقت كلمت ربك} أي المحسن إليك بإهلاك أعدائك: الكلمة الواحدة النافذة التي لا تردد فيها، ومعنى الجمع في قراءة نافع وابن عامر أنه لا شيء من كلماته يناقض الكلمة التي أوجبت عذابهم، بل كلها توافقها فالمراد واحد، أو يكون ذلك كناية عن أن عذابهم دائم فإن كلماته لا تنفذ {على} كل {الذين} فعلوا فعلهم لأنهم {فسقوا} أي أوقعوا الترك لأمر الله وأوجدوا عصيانه وفعلوا الخروج عن طريق الحق و الخروج عن دائرة الصلاح، وهو كونهم أمة واحدة إلى دين أبيهم آدم صَفيُ الله عليه السلام؛ ثم علل ذلك الحقوق بقوله: {أنهم لا يؤمنون} أي لا يتجدد منهم إيمان أصلاً، وعبر بالفسق المراد به الكفر لأن السياق للخروج عن دائرة الدين الحق في قوله {وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا} وهذا المعنى أحق بالتعبير للفسق الذي أصله الخروج عن محيط في قولهم: فسقت الرطبة عن قشرها -أي خرجت، أو يكون المعنى: حقت الربوبية له سبحانه بهذا الدليل، وهو فعل هذه الأمور المختتمة بالتدبير المقتضي للوحدانية له سبحانه قطعاً لأنه لو كان قادر يساويه في مقدوره لأمكن أن يمانعه، وبطل أن يكون قادراً، وحق أن من زاغ عن الحق كان في الضلال كما حق هذا {كذلك حقت} أي ثبتت ثباتاً عظيماً {كلمت ربك على} كل {الذين} قضى بفسقهم منهم. و {أنهم لا يؤمنون} تفسير لكلمته التي حقت؛ والرزق: جعل العطاء الجاري.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ} أي مثل ذلك الذي حقت به كلمة ربك أيها الرسول في وحدة الربوبية والألوهية، وكون الحق ليس بعده لتاركه إلا الباطل، والهدى ليس وراءه للناكب عنه إلا الضلال، حقت كلمة ربك أي سنته أو وعيده على الذين فسقوا، أي خرجوا من حظيرة الحق، وهو توحيد الألوهية والربوبية وهداية الدين الحق. ففي كلمة الرب وجهان، لكل منهما أصل في القرآن:

أحدهما أنها كلمة التكوين، وهي سنته في الفاسقين الخارجين من نور الفطرة واستقلال العقل الذين لا يتوجهون إلى التمييز بين الحق والباطل والتفرقة بين الهدى والضلال لرسوخهم في الكفر، واطمئنانهم به بالتقليد والعمل، فقوله {أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} على هذا بيان للكلمة أو بدل منها، اقتضت سنته في غرائز البشر وأخلاقهم أنهم لا يؤمنون بما يدعوهم إليه رسلنا من التوحيد والهدى مهما تكن آياتهم بينة، وحججهم قوية ظاهرة، وليس معناه أنه تعالى يمنعهم من الإيمان منعا قهريا مستأنفا بمحض قدرته، بل معناه أنهم يمتنعون منه باختيارهم ترجيحا للكفر عليه. ويؤيد هذا الوجه قوله تعالى في هذه السورة {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ ولَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس: 96، 97].

والوجه الثاني أنها كلمة خطاب التكليف بوعيد الفاسقين الكافرين بعذاب الآخرة، كقوله في سورة ألم السجدة {وأما الذين فسقوا فمأواهم النار} [السجدة: 20] وقوله في سورة غافر {وكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر: 6]، ويكون قوله {أنهم لا يؤمنون} على هذا تعليلا لما قبله بحذف حرف الجر؛ أي لأنهم، أو بأنهم لا يؤمنون.

وكل من الوجهين حق ظاهر والأول أظهر هنا.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

تذييل للتعجيب من استمرارهم على الكفر بعدما ظهر لهم من الحجج والآيات، وتأييس من إيمانهم بإفادة أن انتفاء الإيمان عنهم بتقدير من الله تعالى عليهم فقد ظهر وقوع ما قدره من كلمته في الأزل. والكاف الداخلة قبل اسم الإشارة كاف التشبيه. والمشبه به هو المشار إليه، وهو حالهم وضلالهم، أي كما شاهدتَ حقَّت كلمة ربك، يعني أن فيما شاهدتَ ما يبين لك أن قد حقت كلمة ربك عليهم أنهم لا يؤمنون.

وقوله: {أنهم لا يؤمنون} بَدل من (كلِمة) أو (من كلمات). والمراد مضمون جملة {أنهم لا يؤمنون}.

وقرأ نافع، وابن عامر {كلمات ربك} بالجمع. وقرأها الباقون بالإفراد، والمعنى واحد لأن الكلمة تطلق على مجموع الكلام كقوله تعالى: {كلا إنها كلمة هو قائلها} [المؤمنون: 100]، ولأن الجمع يكون باعتبار تعدد الكلمات أو باعتبار تكرر الكلمة الواحدة بالنسبة لأناس كثيرين.

والفسق: الخروج من المسلك الذي شأن الشيء سلوكه، والمراد به فسق عن تلقي دعوة الرسل وإعمال النظر، وتقدم في قوله تعالى: {وما يُضل به إلا الفاسقين} في سورة [البقرة: 26].

ثم يجوز أن يكون المراد بالذين فسقوا كل من استمر على فسقه فلا يؤمن، فتكون الجملة تذييلاً لما فيها من العموم الشامل لهؤلاء المتحدث عنهم، كقوله تعالى: {كذلك يضرب الله الحق والباطل} [الرعد: 17]، ويجوز أن يكون المراد بالذين فسقوا المتحدث عنهم خاصة فيكون من الإظهار في مقام الإضمار لإفادة أنهم مع صفاتهم السابقة قد اتصفوا بالفسق، ولإفادة كون فسقهم علة في أنْ حقت عليهم كلمة الله، ويكون المشبه به هو الحق المأخوذ من {حَقَّت} أي كذلك الحق حقَّتْ عليهم كلمة ربك مبالغة في ظهوره حتى أنه إذا أريد تشبيهه وتقريبه لم يشبه إلا بنفسه...