الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{قُلۡ مَن يَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ أَمَّن يَمۡلِكُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَمَن يُخۡرِجُ ٱلۡحَيَّ مِنَ ٱلۡمَيِّتِ وَيُخۡرِجُ ٱلۡمَيِّتَ مِنَ ٱلۡحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَۚ فَسَيَقُولُونَ ٱللَّهُۚ فَقُلۡ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (31)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا محمد لهؤلاء المشركين بالله الأوثان والأصنام "مَنْ يَرْزُقَكُمْ مِنَ السّماءِ "الغيث والقطر ويطلع لكم شمسها ويغطش ليلها ويخرج ضحاها. وَمن الأرْضِ أقواتكم وغذاءكم الذي ينبته لكم وثمار أشجارها.

"أمْ مَنْ يَمْلِكُ السّمْعَ والأبْصَارَ" يقول: أم من ذا الذي يملك أسماعكم وأبصاركم التي تسمعون بها أن يزيد في قواها أو يسلبكموها فيجعلكم صُمّا، وأبصاركم التي تبصرون بها أن يضيئها لكم وينيرها، أو يذهب بنورها فيجعلكم عميا لا تبصرون. "وَمَنْ يُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ" يقول: ومن يخرج الشيء الحيّ من الميت، "ويُخْرِجُ المَيّتَ مِنَ الحَيّ" يقول: ويخرج الشيء الميت من الحيّ.

وقد ذكرنا اختلاف المختلفين من أهل التأويل والصواب من القول عندنا في ذلك بالأدلة الدالة على صحته في سورة آل عمران بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

"وَمَنْ يُدَبّرِ الأمْرَ" وقل لهم: من يدبر أمر السماء والأرض وما فيهنّ وأمركم وأمر الخلق.

"فَسَيَقُولُونَ اللّهُ" يقول جلّ ثناؤه: فسوف يجيبونك بأن يقولوا الذي يفعل ذلك كله الله.

"فَقُلْ أفَلا تَتّقُونَ" يقول: أفلا تخافون عقاب الله على شرككم وادّعائكم ربّا غير من هذه الصفة صفته، وعبادتكم معه من لا يرزقكم شيئا ولا يملك لكم ضرّا ولا نفعا.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

(فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) بوائقه ونقمته.

أو يقول: (أفلا تتقون) عبادة غيره دونه وإشراك غيره في ألوهيته وربوبيته؟

أو يقول: (أفلا تتقون) صرف شكره إلى غيره، وقد أقررتم أنه المنعم عليكم هذه النِّعَمَ لا من تعبدون دونه؟

أو يقول، والله أعلم: إذا عرفتم ما ذكر (أفلا تتقون) مخالفته وعصيانه؟

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

كما تَوَحَّد الحقُّ- سبحانه- بكونه خالقاً، تَفَرَّدَ بكونه رازقاً، وكما لا خالِقَ سواه فلا رازقَ سواه...

{وَمَن يُخْرِجُ الحي مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الحي}: يخرج المؤمنَ من الكافر، والكافرَ من المؤمن.

{فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ}: ولكنْ ظَنَّا... لا عن بصيرة، ونَطْقاً.. لا عن تصديق سريرة.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والأرض} أي يرزقكم منهما جميعاً، لم يقتصر برزقكم على جهة واحدة ليفيض عليكم نعمته ويوسع رحمته.

{مِنْ يَمْلِكُ السمع والأبصار} من يستطيع خلقهما وتسويتهما على الحدّ الذي سويا عليه من الفطرة العجيبة، أو من يحميهما ويحصنهما من الآفات مع كثرتها في المدد الطوال، وهما لطيفان يؤذيهما أدنى شيء بكلاءته وحفظه. {وَمَن يُدَبّرُ الأمر} ومن يلي تدبير أمر العالم كله، جاء بالعموم بعد الخصوص. {أَفَلاَ تَتَّقُونَ} أفلا تقون أنفسكم ولا تحذرون عليها عقابه فيما أنتم بصدده من الضلال.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أنه تعالى لما بين فضائح عبدة الأوثان، أتبعها بذكر الدلائل الدالة على فساد هذا المذهب.

فالحجة الأولى: ما ذكره في هذه الآية وهو أحوال الرزق وأحوال الحواس وأحوال الموت والحياة؛ أما الرزق فإنه إنما يحصل من السماء والأرض، أما من السماء فبنزول الأمطار الموافقة، وأما من الأرض، فلأن الغذاء إما أن يكون نباتا أو حيوانا، أما النبات فلا ينبت إلا من الأرض، وأما الحيوان فهو محتاج أيضا إلى الغذاء. ولا يمكن أن يكون غذاء كل حيوان حيوانا آخر، وإلا لزم الذهاب إلى ما لا نهاية له وذلك محال، فثبت أن أغذية الحيوانات يجب انتهاؤها إلى النبات وثبت أن تولد النبات من الأرض، فلزم القطع بأن الأرزاق لا تحصل إلا من السماء والأرض، ومعلوم أن مدبر السموات والأرضين ليس إلا الله سبحانه وتعالى، فثبت أن الرزق ليس إلا من الله تعالى.

وأما أحوال الحواس فكذلك، لأن أشرفها السمع والبصر وكان علي رضي الله عنه يقول: سبحان من بصر بشحم، وأسمع بعظم، وأنطق بلحم.

وأما أحوال الموت والحياة فهو قوله: {ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي} وفيه وجهان: الأول: أنه يخرج الإنسان والطائر من النطفة والبيضة {ويخرج الميت من الحي} أي يخرج النطفة والبيضة من الإنسان والطائر. والثاني: أن المراد منه أنه يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، والأكثرون على القول الأول، وهو إلى الحقيقة أقرب. ثم إنه تعالى لما ذكر هذا التفصيل ذكر بعده كلاما كليا، وهو قوله: {ومن يدبر الأمر} وذلك لأن أقسام تدبير الله تعالى في العالم العلوي وفي العالم السفلي، وفي عالمي الأرواح والأجساد أمور لا نهاية لها، وذكر كلها كالمتعذر، فلما ذكر بعض تلك التفاصيل، لا جرم عقبها بالكلام الكلي ليدل على الباقي ثم بين تعالى أن الرسول عليه السلام، إذا سألهم عن مدبر هذه الأحوال فسيقولون إنه الله سبحانه وتعالى، وهذا يدل على أن المخاطبين بهذا الكلام كانوا يعرفون الله ويقرون به، وهم الذين قالوا في عبادتهم للأصنام إنها تقربنا إلى الله زلفى، وإنهم شفعاؤنا عند الله وكانوا يعلمون أن هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر، فعند ذلك قال لرسوله عليه السلام: {فقل أفلا تتقون} يعني أفلا تتقون أن تجعلوا هذه الأوثان شركاء لله في المعبودية، مع اعترافكم بأن كل الخيرات في الدنيا والآخرة إنما تحصل من رحمة الله وإحسانه، واعترافكم بأن هذه الأوثان لا تنفع ولا تضر البتة.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

هذا نوع آخر من أسلوب إقامة الحجج على المشركين في إثبات التوحيد والبعث، وهو أسلوب السؤال والجواب، ويليه إثبات النبوة والرسالة والقرآن.

{قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ} أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين المعاندين من أهل مكة: من يرزقكم من السماء بما ينزله من المطر، ومن الأرض بما ينبته فيها من أنواع النبات نجمه وشجره مما تأكلون وتأكل أنعامكم؟

{أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ} بل قل لهم أيضا: من يملك ما تتمتعون به أنتم وغيركم من حواس السمع والأبصار التي لولاها لم تكونوا تعلمون من أمر العالم شيئا، بل تكون الأنعام والحشرات وكذا الشجر خيرا منكم باستغنائها عمن يقوم بضرورات معاشها، من يملك خلق الحواس وهبتها للناس، وحفظها من الآفات؟ وخص هاتين الحاستين بالذكر؛ لأن عليهما مدار الحياة الحيوانية وكمال البشرية، وتحصيل العلوم الأولية، يشعر بذلك المسئولون بمجرد إلقاء السؤال، وكلما ازدادوا فيه تفكرا ازدادوا علما وإعجابا وإكبارا لإنعام الله تعالى بهما، وإيمانا بأنه لا يقدر غيره عليهما، ولاسيما إدراك الكلام بحاسة السمع، وما يرسمه صوت المتكلم في الهواء من معلوماته التي يدلي بها إلى غيره، فتتكيف بها كل ذرة من ذراته (أي الهواء)، فتقرع به طبلة كل أذن من آذان السامعين وإن كثروا، فينقلها العصب المتصل بها إلى مركز إدراك الكلام من دماغه، فيدرك معناها المدلول عليه بها بأقوى مما يدركه من قرأها مخطوطة في كتاب، لما لجرس الصوت من التأثير الخاص، فمن ذا الذي خلق هذه الآلات؟ ومن ذا الذي ألهمها إيداع هذه المعاني في الأصوات؟ ومن ذا الذي وضع هذا النظام في الهواء؟

ثم إذا ازداد علما بإدراك البصر للمبصرات، وما لها من المقادير والألوان والصفات، وما للعين الباصرة من الشكل المحدب، وما لها من الطبقات والرطوبات، الموافقة لسنن الله في النور تدرك به المرئيات، مما هو مبسوط في الأسفار وموجز في المختصرات، ازداد يقينا بأن ذلك من آيات الله الدالة على علمه وحكمته في الكائنات، وإن غفل عنها المشغولون عن عظمة الصانع بعظمة المصنوعات، وقد وحد السمع؛ لأن إدراكه لجنس واحد هو الأصوات، وجمع البصر لتعدد أجناس المبصرات.

{ومَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ويُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ} أي ومن ذا الذي يملك الحياة والموت في العالم كله فيخرج الأحياء والأموات بعضها من بعض فيما تعرفون من المخلوقات التي تحدث وتتجدد وفيما لا تعرفون؟ فما كانوا يعرفون أن النبات يخرج من الأرض الميتة بعد إحياء الله إياها بماء المطر النازل عليها من السماء أو النابع منها بعد أن سلكه الله تعالى فيها كما قال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوانُهُ} [الزمر: 21] الآية. بل كانت الحياة المعروفة عندهم قسمين: حياة النبات وآيتها النمو، وحياة الحيوان وآيتها النمو والإحساس والحركة بالإرادة، وكانوا يعدون وصف الأرض بالحياة مجازا، ولم يكونوا يصفون أصول الأحياء بالحياة كالحب والنوى وبيض الحيوان ومنيه، ولذلك فسر بعض المفسرين إخراج الحي من الميت والميت من الحي بخروج النخلة من النواة، والطائر من البيضة، وعكسهما وما يشابههما، وهو تفسير صحيح عند أهل اللغة غير صحيح عند علماء الحياة النباتية والحيوانية

وتحصل به الدلالة المقصودة من الآية على قدرة الله وحكمته وتدبيره ورحمته عند المخاطبين، وليس المراد به وضع قواعد فنية للحياة وأنواعها وتحديد وظائفها، على أنه يمكن تفسيرها بما يتفق وقاعد الفنون وتجارب العلوم التي تزداد عصرا بعد عصر، فإذا كان أهلها يثبتون أن في أصول النبات من بزر ونوى وبيض ومني حياة، فهم يثبتون أيضا أن أصول الأحياء في الأرض كلها خرجت من مادة ميتة، فإن الأرض عندهم كانت كتلة نارية ملتهبة انفصلت من الشمس، ثم صارت ماء، ثم نبتت اليابسة في الماء، ثم تكون من الماء النبات والحيوان في أطوار سبق الكلام فيها، ويثبتون أيضا أن الغذاء من الطعام الميت الذي يحرق بالنار يتولد منه دم، ومن هذا الدم يكون البيض والمني المشتملان على مادة الحياة، ويثبتون أيضا أن بعض مواد البدن الحية تموت وتخرج منه مع البخار والعرق وغيرهما مما يفرزه البدن وينفضه، ويتجدد مواد حية جديدة تحل محل ما اندثر وخرج منه، والمراد من الآية إثبات قدرة الخالق وتدبيره ونعمه على عباده، وهو عام لا يتوقف على الفن ومحدثات العلم بل تزيده كمالا للمؤمن المعتبر، وقد تكون حجابا لغيره تحجبه عن ربه...

{فَسَيَقُولُونَ اللّهُ} أي فسيكون جوابهم عن هذه الاستفهامات الخمس أن فاعل ذلك كله هو الله رب كل شيء ومليكه، إذ لا جواب غيره، وهم لا يجهلونه، فالاستفهام عنه لحملهم على الإقرار به، ليترتب عليه قوله {فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} أي فقل لهم أيها الرسول: أتعلمون هذا وتقرون به فلا تتقون سخط الله وعقابه لكم بشرككم به، وعبادتكم لغيره، ممن لا يملك لكم من تلك الأمور شيئا، وهو المالك لها كلها؟

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ومن جولة الحشر الذي تسقط فيه الدعاوى والأباطيل، ويتجلى فيه أن المولى هو الله المهيمن على الموقف وما فيه. إلى جولة في واقعهم الذي يعيشون فيه، وإلى أنفسهم التي يعلمونها، وإلى المشاهد التي يرونها في الحياة. بل إلى اعترافهم هم أنفسهم بأنها من أمر الله ومن خلق الله:

(قل: من يرزقكم من السماء والأرض؟ أم من يملك السمع والأبصار؟ ومن يخرج الحي من الميت)

(ويخرج الميت من الحي؟ ومن يدبر الأمر؟ فسيقولون: الله. فقل: أفلا تتقون؟ فذلكم الله ربكم الحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ فأنى تصرفون؟)..

ولقد مر أن مشركي العرب لم يكونوا ينكرون وجود الله، ولا أنه الخالق، والرازق، والمدبر. إنما كانوا يتخذون الشركاء للزلفى، أو يعتقدون أن لهم قدرة إلى جانب قدرة الله. فهو هنا يأخذهم بما يعتقدونه هم أنفسهم، ليصحح لهم -عن طريق إيقاظ وعيهم وتدبرهم ومنطقهم الفطري- ذلك الخلط والضلال.

(قل: من يرزقكم من السماء والأرض؟)..

من المطر الذي يحيي الأرض وينبت الزرع، ومن طعام الأرض نباتها وطيرها وأسماكها وحيوانها، ثم سائر ما كانوا يحصلون عليه من الأرض لهم ولأنعامهم. وذلك بطبيعة الحال ما كانوا يدركونه حينذاك من رزق السماء والأرض. وهو أوسع من ذلك بكثير. وما يزال البشر يكشفون كلما اهتدوا إلى نواميس الكون عن رزق بعد رزق في السماء والأرض، يستخدمونه أحيانا في الخير ويستخدمونه أحيانا في الشر حسبما تسلم عقائدهم أو تعتل. وكله من رزق الله المسخر للإنسان. فمن سطح الأرض أرزاق ومن جوفها أرزاق. ومن سطح الماء أرزاق ومن أعماقه أرزاق. ومن أشعة الشمس أرزاق ومن ضوء القمر أرزاق. حتى عفن الأرض كشف فيه عن دواء وترياق!

(أم من يملك السمع والأبصار؟)..

يهبها القدرة على أداء وظائفها أو يحرمها، ويصححها أو يمرضها، ويصرفها إلى العمل أو يلهيها، ويسمعها ويريها ما تحب أو ما تكره.. ذلك ما كانوا يدركونه يومئذ من ملك السمع والأبصار. وهو حسبهم لإدراك مدلول هذا السؤال وتوجيهه. وما يزال البشر يكشفون من طبيعة السمع والبصر، ومن دقائق صنع الله في هذين الجهازين ما يزيد السؤال شمولا وسعة. وإن تركيب العين وأعصابها وكيفية إدراكها للمرئيات، أو تركيب الأذن وأجزائها وطريقة إدراكها للذبذبات، لعالم وحده يدير الرؤوس، عندما يقاس هذا الجهاز أو ذاك إلى أدق الأجهزة التي يعدها الناس من معجزات العلم في العصر الحديث! وإن كان الناس يهولهم ويروعهم ويبهرهم جهاز يصنعه الإنسان، لا يقاس في شيء إلى صنع الله. بينما هم يمرون غافلين بالبدائع الإلهية في الكون وفي أنفسهم كأنهم لا يبصرون ولا يدركون!

(ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي؟)..

وكانوا يعدون الساكن هو الميت، والنامي أو المتحرك هو الحي. فكان مدلول السؤال عندهم مشهودا في خروج النبتة من الحبة، والحبة من النبتة، وخروج الفرخ من البيضة، والبيضة من الفرخ.. إلى آخر هذه المشاهدات. وهو عندهم عجيب. وهو في ذاته عجيب حتى بعد أن عرف أن الحبة والبيضة وأمثالهما ليست في الموتى بل في الأحياء؛ بما فيها من حياة كامنة واستعداد. فإن كمون الحياة بكل استعداداتها ووراثاتها وسماتها وشياتها لأعجب العجب الذي تصنعه قدرة الله..

وإن وقفة أمام الحبة والنواة، تخرج منهما النبتة والنخلة، أو أمام البيضة والبويضة يخرج منهما الفرخ والإنسان، لكافية لاستغراق حياة في التأمل والارتعاش!

وإلا فأين كانت تكمن السنبلة في الحبة؟ وأين كان يكمن العود؟ وأين كانت تلك الجذور والساق والأوراق؟.. وأين في النواة كان يكمن اللب واللحاء، والساق السامقة والعراجين والألياف؟ وأين يكمن كان الطعم والنكهة واللون والرائحة، والبلح والتمر، والرطب والبسر.

وأين في البيضة كان الفرخ؟ وأين يكمن كان العظم واللحم، والزغب والريش، واللون والشيات، والرفرفة والصوات...؟

وأين في البويضة كان الكائن البشري العجيب؟ أين كانت تكمن ملامحه وسماته المنقولة عن وراثات موغلة في الماضي متشعبة المنابع والنواحي؟ أين كانت نبرات الصوت، ونظرات العين، ولفتات الجيد، واستعدادات الأعصاب، ووراثات الجنس والعائلة والوالدين؟ وأين أين كانت تكمن الصفات والسمات والشيات؟

وهل يكفي أن نقول: إن هذا العالم المترامي الأطراف كان كامنا في النبتة والنواة وفي البيضة والبويضة، لينقضي العجب العاجب الذي لا تفسير له ولا تأويل إلا قدرة الله وتدبير الله؟

وما يزال البشر يكشفون من أسرار الموت وأسرار الحياة، وإخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي، وتحول العناصر في مراحل إلى موت أو حياة، ما يزيد مساحة السؤال وعمقه وشموله كل يوم وكل لحظه. وإن تحول الطعام الذي يموت بالطهي والنار إلى دم حي في الجسم الحي، وتحول هذا الدم إلى فضلات ميتة بالاحتراق، لأعجوبة يتسع العجب منها كلما زاد العلم بها. وهي بعد كائنة في كل لحظة آناء الليل وأطراف النهار. وإن الحياة لأعجوبة غامضة مثيرة تواجه الكينونة البشرية كلها بعلامات استفهام لا جواب عليها كلها إلا أن يكون هناك إله، يهب الحياة!

(ومن يدبر الأمر؟)..

في هذا الذي ذكر كله وفي سواه من شؤون الكون وشؤون البشر؟ من يدبر الناموس الكوني الذي ينظم حركة هذه الأفلاك على هذا النحو الدقيق؟ ومن يدبر حركة هذه الحياة فتمضي في طريقها المرسوم بهذا النظام اللطيف العميق؟ ومن يدبر السنن الاجتماعية التي تصرف حياة البشر، والتي لا تخطى ء مرة ولا تحيد؟ ومن ومن؟

(فسيقولون الله)..

فهم لم يكونوا ينكرون وجود الله، أو ينكرون يده في هذه الشؤون الكبار. ولكن انحراف الفطرة كان يقودهم مع هذا الاعتراف إلى الشرك بالله، فيتوجهون بالشعائر إلى سواه، كما يتبعون شرائع لم يأذن بها الله.

(فقل: أفلا تتقون؟)..

أفلا تخشون الله الذي يرزقكم من السماء والأرض، والذي يملك السمع والأبصار، والذي يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، والذي يدبر الأمر كله في هذا وفي سواه؟ إن الذي يملك هذا كله لهو الله، وهو الرب الحق دون سواه:

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

انتقال من غرض إلى غرض في أفانين إبطال الشرك وإثبات توحد الله تعالى بالإلهية. وهذه الجملة تتنزل منزلة الاستدلال لقوله: {مولاهم الحق} [يونس: 30] لأنها برهان على أنه المستحق للولاية.

فاحتج على ذلك بمواهب الرزق الذي به قوام الحياة، وبموهبة الحواس، وبنظام التناسل والتوالد الذي به بقاء الأنواع، وبتدبير نظام العالم وتقدير المقدرات، فهذه كلها مواهب من الله وهم كانوا يعلمون أن جميع ما ذكر لا يفعله إلا الله إذ لم يكونوا ينسبون إلى أصنامهم هذه الأمور، فلا جرم أن كان المختص بها هو مستحق الولاية والإلهية.

والاستفهام تقريري. وجاء الاستدلال بطريقة الاستفهام والجوابِ لأن ذلك في صورة الحوار، فيكون الدليل الحاصل به أوقع في نفوس السامعين، ولذلك كان من طرق التعليم مما يراد رسوخه من القواعد العلمية أن يؤتى به في صورة السؤال والجواب.

وقوله: {من السماء والأرض} تذكير بأحوال الرزق؛ ليكون أقوى حضوراً في الذهن، فالرزق من السماء المطر، والرزق من الأرض النبات كله من حب وثمر وكلأ.

و (أم) في قوله: {أم من يملك السمع} للإضراب الانتقالي من استفهام إلى آخر.

ومعنى: {يملك السمع والأبصار} يملك التصرف فيهما، وهو مِلك إيجاد تينك الحاستين وذلك استدلال وتذكير بأنفع صنع وأدقه.

وأفرد {السمع} لأنه مصدر فهو دال على الجنس الموجود في جميع حواس الناس.

وأما {الأبصار} فجيء به جمعاً لأنه اسم، فهو ليس نصاً في إفادة العموم لاحتمال توهم بصر مخصوص فكان الجمع أدل على قصد العموم وأنفى لاحتمال العهد ونحوه بخلاف قوله: {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً} [الإسراء: 36] لأن المراد الواحد لكل مخاطب بقوله: {ولا تقفُ ما ليس لك به علم} [الإسراء: 36]. وقد تقدم عند قوله تعالى: {قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم} في سورة [الأنعام: 46].

وإخراجُ الحي من الميت: هو تولد أطفال الحيوان من النطف ومن البَيْض؛ فالنطفة أو البيضة تكون لا حياة فيها ثم تتطور إلى الشكل القابل للحياة ثم تكون فيها الحياة. و (مِن) في قوله: مِن الميت} للابتداء. وإخراج الميت من الحي إخراج النطفةِ والبيضِ من الحيوان.

والتعريف في {الحي} و {الميت} في المرتين تعريف الجنس.

وقد نظم هذا الاستدلال على ذلك الصنع العجيب بأسلوب الأحاجي والألغاز وجعل بمحسن التضاد، كل ذلك لزيادة التعجيب منه. وقد تقدم الكلام على نظيره في قوله: {وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي} في سورة [آل عمران: 27]. غير أن ما هنا ليس فيه رمز إلى شيء.

وقوله: {ومن يدبر الأمر} تقدم القول في نظيره في أوائل هذه السورة. وهو هنا تعميم بعد تخصيص ذكر ما فيه مزيد عبرة في أنفسهم كالعِبرة في قوله: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون وفي السماء رزقكم وما توعدون} [الذاريات: 21، 22].

والفاء في قوله: {فسيقولون الله} فاء السببية التي من شأنها أن تقترن بجواب الشرط إذا كان غير صالح لمباشرة أداة الشرط، وذلك أنه قصد تسبب قولهم: {اللّهُ} على السؤال المأمور به النبيءُ عليه الصلاة والسلام، فنزل فعل {قل} منزلة الشرط فكأنه قيل: إن تَقل من يرزقكم من السماء والأرض فسيقولون الله، ومنه قوله تعالى: {قل كونوا حجارة أو حديداً أو خلقاً مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا} [الإسراء: 51، 52]. وهذا الاستعمال نظير تنزيل الأمر من القول منزلة الشرط في جزم الفعل المقول بتنزيله منزلة جواب الشرط كقوله تعالى: {قل لعباديَ الذين آمنوا يقيمُوا الصلاة} [إبراهيم: 31] وقوله: {وقل لعبادِي يقولوا التي هي أحسن} [الإسراء: 53]. التقدير: إن تقل لهم أقيموا الصلاة يقيموا وإن تقل لهم قولوا التي هي أحسن يقولوا. وهو كثير في القرآن على رأي المحققين من النحاة وعادة المعربين أن يُخَرّجوه على حذف شرط مقدر دل عليه الكلام. والرأيان متقاربان إلا أن ما سلكه المحققون تقدير معنى والتقدير عندهم اعتبار لا استعمال، وما سلكه المعربون تقدير إعراب والمقدر عندهم كالمذكور.

ولو لم ينزل الأمر بمنزلة الشرط لما جَاءت الفاء كما في قوله تعالى: {قل لِمَن الأرضُ ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله} [المؤمنون: 84، 85] الآيات.

والفاء في قوله: {فقل} فاء الفصيحة، أي إن قالوا ذلك فقل أفلا تتقون. والفاء في قوله: {أفلا تتقون} فاء التفريع، أي يتفرع على اعترافكم بأنه الفاعل الواحد إنكار عدم التقوى عليكم. ومفعول {تتقون} محذوف، تقديره تتقونه، أي بتنزيهه عن الشريك.

وإنما أخبر الله عنهم بأنهم سيعترفون بأن الرازق والخالق والمدبر هو الله لأنهم لم يكونوا يعتقدون غير ذلك كما تكرر الإخبار بذلك عنهم في آيات كثيرة من القرآن. وفيه تحدّ لهم فإنهم لو استطاعوا لأنكروا أن يكون ما نسب إليهم صحيحاً، ولكن خوفهم عار الكذب صرفهم عن ذلك فلذلك قامتْ عليهم الحجة بقوله: {فقل أفلا تتقون}.