الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَٱلَّذِينَ كَسَبُواْ ٱلسَّيِّـَٔاتِ جَزَآءُ سَيِّئَةِۭ بِمِثۡلِهَا وَتَرۡهَقُهُمۡ ذِلَّةٞۖ مَّا لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِنۡ عَاصِمٖۖ كَأَنَّمَآ أُغۡشِيَتۡ وُجُوهُهُمۡ قِطَعٗا مِّنَ ٱلَّيۡلِ مُظۡلِمًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (27)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: والذين عملوا السيئات في الدنيا، فعصوا الله فيها، وكفروا به وبرسوله، جزاء سيئة من عمله السيء الذي عمله في الدنيا بمثلها من عقاب الله في الآخرة. "وَتَرْهَقُهُمْ ذِلّةٌ "يقول: وتغشاهم ذلة وهوان بعقاب الله إياهم. "ما لَهُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ عاصِمٍ" يقول: ما لهم من الله من مانع يمنعهم إذا عاقبهم يحول بينه وبينهم...

"كأنّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعا مِنَ اللّيْلِ مُظْلِما أُولَئِكَ أصَحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ".

يقول تعالى ذكره: كأنما ألبست وجوه هؤلاء الذين كسبوا السيئات قطعا من الليل، وهي جمع قطعة...

وقوله: "أُولَئِكَ أصَحابُ النّارِ" يقول: هؤلاء الذين وصفت لك صفتهم أهل النار الذين هم أهلها، "هُمْ فِيها خالِدُونَ" يقول: هم فيها ماكثون.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

... (مَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ) وذلك أنهم، والله أعلم، كانوا يعبدون الأصنام رجاء أن يكونوا لهم شفعاء، فأخبر أن ليس لهم من عذاب الله مانع يمنع ذلك عنهم...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

لما وصف الله تعالى المطيعين، ومالهم من الثواب الجزيل في الجنة والخلود فيها، ذكر حكم العصاة الذين يرتكبون السيئات ويكسبونها وأن لهم جزاء كل سيئة مثلها يعني قدر ما يستحق عليها من غير زيادة، لأن الزيادة على قدر المستحق من العقاب ظلم، وليس كذلك الزيادة على قدر المستحق من الثواب، لأن ذلك تفضل يحسن فعله ابتداء. فالمثل -في الآية- المراد به مقدار المستحق من غير زيادة ولا نقصان. والكسب: فعل يجتلب به نفع أو يدفع به ضرر...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

{وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ}: هو تأبيد العقوبة. {مَّا لَهُم مِنّ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} أي ما لهم من عذابه من عاصم، سِيمُوا ذُلَّ الحجاب، ومُنُوا بتأبيد العذاب، وأصابهم هوان البعاد.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{ما لهم من الله من عاصم} واعلم أنه لا عاصم من الله لا في الدنيا ولا في الآخرة، فإن قضاءه محيط بجميع الكائنات، وقدره نافذ في كل المحدثات إلا أن الغالب على الطباع العاصية، أنهم في الحياة العاجلة مشتغلون بأعمالهم ومراداتهم، أما بعد الموت فكل أحد يقر بأنه ليس له من الله من عاصم قوله: {كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما} والمراد من هذا الكلام إثبات ما نفاه عن السعداء حيث قال: {ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة}. واعلم أن حكماء الإسلام قالوا: المراد من هذا السواد المذكور ههنا سواد الجهل وظلمة الضلالة، فإن العلم طبعه طبع النور، والجهل طبعه طبع الظلمة، فقوله: {وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة} المراد منه نور العلم، وروحه وبشره وبشارته، وقوله: {ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة} المراد منه ظلمة الجهل وكدورة الضلالة.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما بين حال الفضل فيمن أحسن، بين حال العدل فيمن أساء فقال: {والذين كسبوا} أي منهم {السيئات} أي المحيطة بهم {جزآء سيئة} أي منهم {بمثلها} بعدل الله من غير زيادة {وترهقهم ذلة} أي من جملة جزائهم، فكأنه قيل: أما لهم انفكاك عن ذلك؟ فقيل جواباً: {ما لهم من الله} أي الملك الأعظم؛ وأغرق في النفي فقال: {من عاصم} أي يمنعهم من شيء يريده بهم.

ولما كان من المعلوم أن ذلك مغير لأحوالهم، وصل به قوله: {كأنما} ولما كان المكروه مطلق كونها بالمنظر السيئ، بني للمفعول قوله: {أغشيت وجوههم} أي أغشاها مغش لشدة سوادها لما هي فيه من السوء {قطعاً} ولما كان القطع بوزن عنب مشتركاً بين ظلمة آخر الليل و جمع القطعة من الشيء. بين وأكد فقال: {من الليل} أي هذا الجنس حال كونه {مظلماً} ولما كان ذلك ظاهراً في أنهم أهل الشقاوة، وصل به قوله: {أولئك} أي البعداء البغضاء {أصحاب النار} ولما كانت الصحبة الملازمة، بينها بقوله: {هم فيها} أي خاصة {خالدون} أي لا يمكنون من مفارقتها؛ والرهق: لحاق الأمر، ومنه: راهق الغلام -إذا لحق حال الرجال؛ والقتر:الغبار، ومنه الإقتار في الإنفاق لقلته؛ والذلة: صغر النفس بالإهانة؛ والكسب: الفعل لاجتلاب النفع إلى النفس أو استدفاع الضر.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{والَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} جزاء وفاقا، لا يزادون على ما يستحقون بسيئاتهم من العذاب شيئا.

{وتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} أي تغشاهم الفضيحة، وكسوف الخزي، بما يظهره حسابهم من شرك وظلم وزور وفجور.

{مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ} ما لهم من أحد ولا من شيء يعصمهم ويمنعهم من عذاب الله، كالذين اتخذوهم في الدنيا من الشركاء، وزعموهم من الأولياء والشفعاء، وانتحلوهم من الوسائل والوسطاء، لأنه اليوم الذي تنقطع فيه الأسباب التي مضت بها سنن الله تعالى في الدنيا، فأنى تفيد فيه المزاعم الشركية الوهمية {يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله} [الانفطار: 19] أو ما لهم من عند الله ومن فضله من عاصم يحفظهم من عذابه كعفوه ومغفرته، فإنه لا يغفر أن يشرك به، كالشفعاء الذين يشفعون بإذنه لمن ارتضى من عباده إظهارا لكرامتهم، لأن هذه الشفاعة الخاصة لا نصيب فيها لمنتحلي الشفاعة الشركية الذي كانوا يزعمون في الدنيا أن لشفعائهم تأثيرا في مشيئة الله وأفعاله حتى يحملوه على فعل ما لم يكن يفعله لولا شفاعتهم، فيجعلون ذاته وصفاته وأفعاله معلولة تابعة لما يطلبونه منه، وأما شفاعة الإيمان الصحيحة فهي تابعة لمشيئته ولمرضاته {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} [الأنبياء: 28].

{كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِما} أي كأنما قدّ لوجوههم قطع من أديم الليل حالة كونه حالكا مظلما، ليس فيه بصيص من نور القمر طالع، ولا نجم ثاقب، فأغشيتها قطعة بعد قطعة، فصارت ظلمات فوق بعض، وإنه لتشبيه عظيم في بلاغة المبالغة في خذلانهم وفضيحتهم التي تكسف نور الفطرة، والظاهر أن سواد وجوههم حقيق ومجازي.

{أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي أولئك الموصفون بما ذكرهم أصحاب النار خالدون فيها لا يبرحونها؛ لأنه ليس لهم مأوى سواها- كما تقدم في آية أخرى- وقد يدخلها بعض عصاة المؤمنين، فيعاقبون على ما اجترحوا من السيئات، ثم يخرجون منها.

هذا الوصف لأهل الجنة وأهل النار له نظير في آخر سورة الأعمى {وجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة * ووجوه يومئذ عليها غبرة * ترهقها قترة * أولئك هم الكفرة الفجرة} [عبس: 38 42]، وفي سورة القيامة {وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة * ووجوه يومئذ باسرة * تظن أن يفعل بها فاقرة} [القيامة: 22 25]، وهذه المقابلة في سورة القيامة ترجح أن الزيادة على الحسنى في آية يونس هي مرتبة النظر إلى الرب، فنسأله تعالى أن يجعلنا وأولادنا وأهل بيتنا وإخواننا الصادقين من أهلها.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(والذين كسبوا السيئات).. فكانت هي الربح الذي خرجوا به من صفقة الحياة! هؤلاء ينالهم عدل الله، فلا يضاعف لهم الجزاء، ولا يزاد عليهم السوء. ولكن: (جزاء سيئة بمثلها).. (وترهقهم ذلة).. تغشاهم وتركبهم وتكربهم. (ما لهم من الله من عاصم). (كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما).. كأنما أخذ من الليل المظلم فقطع رقعا غشيت بها هذه الوجوه! وهكذا يغشى الجو كله ظلام من ظلام الليل المظلم ورهبة من رهبته، تبدو فيه هذه الوجوه ملفعة بأغشية من هذا الليل البهيم. (أولئك).. المبعدون في هذا الظلام والقتام (أصحاب النار).. ملاكها ورفاقها (هم فيها خالدون).

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

... {والذين كسبوا السيئات} ونحن نعلم أن الكسب إنما يكون في الأمر الفطري ويناسب الطاعات؛ لأن الطاعة أمر يناسب وملائم للفطرة، فلا أحد يستحي أن يصلي، أو يتصدق، أو يصوم، أو يحج، لكن من الناس من يستحي أن يعرف عنه أنه كاذب، أو مراب، أو شارب خمر.

والإنسان حين يرتكب السيئة يمر بتفاعلات متضاربة؛ فالذي يسرق من دولاب والده وهو نائم، تجده يتسلل على أطراف أصابعه ويكون حذرا من أن يرتطم بشيء يفضح أمره، كذلك الذي ينظر إلى محارم غيره.

كل هذا يدل على أن ارتكاب الشيء المخالف فيه افتعال، أي: يحتاج إلى اكتساب، ولكن الكارثة أن يستمر الإنسان في ارتكاب المعاصي حتى تصير دربة، ويسهل اعتياده عليها؛ فيمارس المعصية باحتراف؛ فتتحول من اكتساب على كسب.

أو أن يصل الفاسق من هؤلاء إلى مرتبة من الاستقرار على الانحلال؛ فيروي ما يفعله من معاص وآثام بفخر، كأن يقول:"لقد سهرنا بالأمس سهرة تخلب العقل، وفعلنا كذا وكذا"، ويروي ذلك، وكأنه قد كسب تلك السهرة بما فيها من معاص وآثام.

ومن رحمة الله سبحانه بالخلق أنه يجازي مرتكب السيئة بسيئة مثلها، فيقول سبحانه: {جزاء سيئة بمثلها}، وتتجلى أيضا رحمة الحق سبحانه وتعالى حين يعطي من لا يرتكب السيئة مرتبة؛ فيصير ضمن من قال عنهم الحق سبحانه: {لا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة} لكن الذين لم يهتدوا منهم من يقول الحق سبحانه عنهم: {ما لهم من الله من عاصم} أي: لن يجيرهم أحد عند الله تعالى، ولن يقول أحد لله سبحانه: لا تعذبهم. أو أن (لا عاصم لهم) بمعنى: أن الله تعالى لن يأمر بعد ذلك بألا يعذبوا.

ولا يقتصر أمرهم على ذلك فقط، بل يقول الحق سبحانه: {كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما} أي: كأن قطعا من الليل المظلم قد غطت وجوههم، ويكون مأواهم النار {أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}.

هذا هو حال الذين كذبوا بآيات الله تعالى وكذبوا الرسل، وتأبوا عن دعوة الله سبحانه وتعالى إلى دار السلام واتبعوا أهواءهم واتخذوا شركاء من دون الله تعالى.

وشاء الحق سبحانه أن يجلي لنا ذلك كله في الدنيا؛ حتى يكون الكون كله على بصيرة بما يحدث له في الآخرة؛ لأنه نتيجة حتمية لما حدث من هؤلاء في الدنيا.