الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{إِنَّمَا سُلۡطَٰنُهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ يَتَوَلَّوۡنَهُۥ وَٱلَّذِينَ هُم بِهِۦ مُشۡرِكُونَ} (100)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{إنما سلطانه}، يعني: ملكه،

{على الذين يتولونه}، يعني: يتبعونه على أمره، فيضلهم عن دينهم الإسلام،

{والذين هم به}، يعني: بالله،

{مشركون} كقوله سبحانه: {وما كان لي عليكم من سلطان} [إبراهيم:22] من ملك، يعني: إبليس على أمره.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 99]

وأما قوله: {إنّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلى الّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ}، فإنه يعني بذلك: أن الشيطان ليست له حجة على الذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا بما أمر الله به، وانتهوا عما نهاهم الله عنه. {وَعَلى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ}، يقول: وعلى ربهم يتوكلون فيما نابهم من مهمات أمورهم.

{إنّمَا سُلْطَانُه عَلىَ الّذِينَ يتَولّونَهُ}، يقول: إنما حجته على الذين يعبدونه، {وَالّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}، يقول: والذين هم بالله مشركون...

واختلف أهل التأويل في المعنى الذي من أجله لم يسلط فيه الشيطان على المؤمن؛ فقال بعضهم:...عن سفيان، في قوله: {إنّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلى الّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ} قال: ليس له سلطان على أن يحملهم على ذنب لا يغفر.

وقال آخرون: هو الاستعاذة، فإنه إذا استعاذ بالله، منع منه ولم يسلط عليه. واستشهد لصحة قوله ذلك بقول الله تعالى: {وإمّا يَنْزَغَنّكَ منَ الشّيْطانِ نَزْغٌ فاسْتَعِذْ باللّهِ إنّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، وقد ذكرنا الرواية بذلك في سورة الحِجْر.

وقال آخرون في ذلك:...عن الربيع، في قوله: {إنّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلى الّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ}، إلى قوله: {وَالّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} يقال: إن عدوّ الله إبليس قال: {لأغْوِيَنّهُمْ أجَمعينَ إلاّ عبادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ}، فهؤلاء الذين لم يجعل للشيطان عليهم سبيل، وإنما سلطانه على قوم اتخذوه وليّا وأشركوه في أعمالهم...

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: معناه: إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا فاستعاذوا بالله منه، بما ندب الله تعالى ذكره من الاستعاذة، {وَعَلى رَبهِمْ يَتَوَكّلُونَ}، على ما عرض لهم من خطراته ووساوسه.

وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بالآية؛ لأن الله تعالى ذكره أتبع هذا القول: {فإذَا قَرأتَ القُرآنَ فاسْتَعِذْ باللّهِ مِنَ الشّيْطانِ الرّجِيمِ}، وقال في موضع آخر: {وَإمّا يَنْزَغَنّكَ مِنَ الشّيْطانِ نَزْغٌ فاسْتَعِذْ باللّهِ إنّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، فكان بينا بذلك أنه إنما ندب عباده إلى الاستعاذة منه في هذه الأحوال ليُعيذهم من سلطانه.

وأما قوله: {وَالّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله؛ فقال بعضهم فيه بما قلنا إن معناه: والذين هم بالله مشركون... عن مجاهد: {وَالّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}، قال: يعدلون بالله...

وقال آخرون: معنى ذلك: والذين هم به مشركون، أشركوا الشيطان في أعمالهم...

والقول الأوّل، أعني قول مجاهد، أولى القولين في ذلك بالصواب، وذلك أن الذين يتولون الشيطان إنما يشركونه بالله في عبادتهم وذبائحهم ومطاعمهم ومشاربهم، لا أنهم يشركون بالشيطان. ولو كان معنى الكلام ما قاله الربيع، لكان التنزيل: الذين هم مشركوه، ولم يكن في الكلام «به»، فكان يكون لو كان التنزيل كذلك: والذين هم مشركوه في أعمالهم، إلا أن يوجه موجه معنى الكلام إلى أن القوم كانوا يدينون بألوهة الشيطان ويشركون الله به في عبادتهم إياه، فيصحّ حينئذ معنى الكلام، ويخرج عما جاء التنزيل به في سائر القرآن، وذلك أن الله تعالى وصف المشركين في سائر سور القرآن أنهم أشركوا بالله ما لم ينزل به عليهم سلطانا، وقال في كل موضع تقدّم إليهم بالزجر عن ذلك: لا تشركوا بالله شيئا، ولم نجد في شيء من التنزيل: لا تشركوا الله بشيء، ولا في شيء من القرآن خبرا من الله عنهم أنهم أشركوا الله بشيء فيجوز لنا توجيه معنى قوله: {وَالّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}، إلى والذين هم بالشيطان مشركو الله. فبين إذا إذ كان ذلك كذلك أن الهاء في قوله: {وَالّذِينَ هُمْ بِهِ}، عائدة على «الربّ» في قوله: {وَعَلى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ}.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{بِهِ مُشْرِكُونَ}، الضمير يرجع إلى ربهم. ويجوز أن يرجع إلى الشيطان، على معنى: بسببه وغروره ووسوسته...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ثم وصل بذلك ما أفهمه من أن له سلطاناً على غيرهم فقال تعالى: {إنما سلطانه}، أي: الذي يتمكن به غاية التمكن بإمكان الله له. {على الذين يتولونه}، أي: تولوه وأصروا على ذلك بتجديد ولايته كل حين. {والذين هم}، أي: بظواهرهم وبواطنهم، {به}، أي: بالشيطان {مشركون} دائماً؛ لأنهم إذا تبعوا وساوسه، وأطاعوا أوامره، فقد عبدوه فجعلوه بذلك شريكاً، فهم لا يتأملون دقائق القرآن، بل ولا يفهمون ظواهره على ما هي عليه؛ لما أعماهم به الشيطان من وساوسه، وحبسهم به عن هذه الأساليب من محابسه، فهم لا يزالون يطعنون فيه بقلوب عمية وألسنة بذية؛

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

أولئك الذين يجعلونه وليهم ويستسلمون له بشهواتهم ونزواتهم، ومنهم من يشرك به. فقد عرفت عبادة الشيطان وعبادة إله الشر عند بعض الأقوام. على أن أتباعهم للشيطان نوع من الشرك بالولاء والاتباع...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

جملة {إنما سلطانه على الذين يتولونه} مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن مضمون الجملة قبلها يثير سؤال سائل يقول: فسلطانه على من؟...

والقصر المستفاد من {إنما} قصر إضافي بقرينة المقابلة، أي دون الذين آمنوا وعلى ربّهم يتوكّلون، فحصل به تأكيد جملة {إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا} لزيادة الاهتمام بتقرير مضمونها، فلا يفهم من القصر أنه لا سلطان له على غير هذين الفريقين وهم المؤمنون الذين أهملوا التوكّل والذين انخدعوا لبعض وسوسة الشيطان...

وعبّر بالمضارع للدّلالة على تجدّد التولّي، أي الذين يجدّدون تولّيه، للتّنبيه على أنهم كلما تولّوه بالميل إلى طاعته تمكّن منهم سلطانه، وأنه إذا انقطع التولّي بالإقلاع أو بالتوبة انسلخ سلطانه عليهم...

وتقديم المجرور في {به مشركون} لإفادة الحصر، أي ما أشركوا إلا بسببه، ردّاً عليهم إذ يقولون {لو شاء الله ما أشركنا} [سورة الأنعام: 148] وقولهم: {لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء} [سورة النحل: 35] وقولهم: {وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها} [سورة الأعراف: 28]...

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

وإنما الشيطان يحتل بولايته من لا ولاية له مع الله، وفي نفوسهم فراغ من سلطان الله تعالى... قصر سبحانه سلطانه {على الذين يتولونه}، أي على الذين جعلوا ولايتهم له فاختاروا الهوى على الحق والأوهام على الفعل... فأضلهم وفرغت نفوسهم عن الإيمان فملأها بالأوهام...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

وقد سمى الله طريقة الشيطان في الإضلال والغواية وسوسة، والوسوسة في الحقيقة هي صوت الحلي حينما يتحرك في أيدي النساء، فيحدث صوتاً رقيقاً فيه جاذبية وإغراء تهيج له النفس، وكذلك الشيطان يدخل إليك عن طريق الإغراء والتزيين، فإذا ما هاجت عليك نفسك وحدثتك بالمعصية تركك لها، فعند هذه النقطة تنتهي مهمته...

النفس الأمارة بالسوء قد تفعل المعصية من نفسها دون وسوسة من الشيطان، وقد يوسوس الشيطان لها، وينزغها نزغاً ويؤلبها، ويزين لها معصية ما كانت على بالها...

حينما يوسوس الشيطان لك بشهوة فوجد منك مقاومة وقدرة على مجابهته، صرف نظرك إلى أخرى؛ لأنه يريدك عاصياً بأي شكل من الأشكال، فتراه يزين لك معصية أخرى وأخرى، إلى أن ينال منك ما يريد...

ولكي نقف على مداخل الشيطان، ونكون منه على حذر يجب أن نعلم أن الشيطان على علم كبير وصل به إلى صفوف الملائكة... ويمكن أن نقف على شيء من علم الشيطان في دقة قسمه، حينما أقسم للحق تبارك وتعالى أن يغوي بني آدم، فقال: {فبعزتك لأغوينهم أجمعين "82 "إلا عبادك منهم المخلصين "83 "} (سورة ص)...

فالمعنى: فبعزتك عن خلقك: يؤمن من يؤمن، ويكفر من يكفر، سوف أدخل من هذا الباب لإغواء البشر، ولكني لا أجرؤ على الاقتراب ممن اخترتهم واصطفيتهم، لن أتعرض لعبادك المخلصين، ولا دخل لي بهم، ولا سلطان لي عليهم...

كذلك يجب أن نعلم أن الشيطان دقيق في تخطيطه، وهذا من مداخله وتلبيسه الذي يدعونا إلى الحذر من هذا اللعين. فالشيطان لا حاجة له في أن يذهب إلى الخمارات مثلاً، فقد كفاه أهلها مشقة الوسوسة، ووفروا عليه المجهود، هؤلاء هم أولياؤه وأحبابه ومريحوه بما هم عليه من معصية الله، ولكنه في حاجة إلى أن يكون في المساجد ليفسد على أهل الطاعة طاعتهم...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

فأوّل شرط ينبغي تحقيقه لمن رام السير على طريق الحق هو تهذيب النفس وامتلاك التقوى، وبدون ذلك يقع الإِنسان في ظلمات الوهم فيضل الطريق... ويشير القرآن الكريم لهذه الحقيقة بـ (هدىً للمتقين)...

، (وطبيعي أنّ القرآن بآياته وحقائقه الناصعة لا يكون وسيلة للإِضلال، ولكنّ أهواءهم وعنادهم هو الذي جرّهم لذلك) والآيتان (124 و 125)، من سورة التوبة تبيّن لنا هذه الحالة بكل وضوح: (أمّا الذين آمنوا فزادتهم إِيماناً وهم يستبشرون وأمّا الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون)...

فالمقصود بالآية: عدم الاكتفاء بذكر (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، بل ينبغي أنْ نجعل من هذا الذكر فكراً، ومن الفكر حالة داخلية، وعندما نقرأ آيّة نستعيذ بالله من أن تستحوذ وساوس الشيطان علينا، أو أنْ تحول بيننا وبين كلام اللّه جل وعلا...

وكأنّ القرآن الكريم يريد أنْ يفهمنا باستخدامه كلمة «الرجيم»، بضرورة الاحتياط والحذر من الوقوع في حالة التكبّر والغرور والتعصب عند تلاوة آيات اللّه الحكيم، لكي لا نقع بما وقع به الشيطان من قبل، فنهوى في وحل الكفر بدلا من إِدراك وفهم الحقائق القرآنية...

قسمت الآيات أعلاه الناس إلى قسمين:... قسم يرزح تحت سلطة الشيطان، وقسم خارج عن هذه السلطة، وبيّنت صفتين لكلٍّ من هذين القسمين: فالذين هم خارج سلطة الشيطان: مؤمنون ومتوكلون على اللّه عزَّ وجلّ، أيْ أنّهم من الناحية الاعتقادية عباد لله، ومن الناحية العملية يعيشون مستقلين عن كل شيء سوى اللّه، ويتوكلون عليه لا على البشر أو على الأهواء والتعصبات...

أمّا الذين يرزحون تحت سلطة الشيطان، فقائدهم الشيطان، (يتولّونه) وهم مشركون؛ لأنّ أعمالهم تشير إلى تبعيتهم للشيطان وأوامره كشريك لله جل وعلا...

وثمة مَنْ يسعى لأنْ يكون من القسم الأوّل، ولكنّ ابتعاده عن المربّين الإِلهيين، أو الضياع في محيط فاسد، أو أيّ أسباب أُخرى، تؤدي إلى سقوطه في وحل القسم الثّاني... ـ