الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَإِذَا بَدَّلۡنَآ ءَايَةٗ مَّكَانَ ءَايَةٖ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوٓاْ إِنَّمَآ أَنتَ مُفۡتَرِۭۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ} (101)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وإذا بدلنا ءاية مكان ءاية}، يعني: وإذا حولنا آية فيها شدة فنسخناها، وجئنا مكانها بغيرها ألين منها،

{والله أعلم بما ينزل}، من التبديل من غيره،

{قالوا}، قال كفار مكة للنبي صلى الله عليه وسلم: {إنما أنت مفتر}، يعني: متقول على الله الكذب من تلقاء نفسك، قلت كذا وكذا، ثم نقضته وجئت بغيره،

{بل أكثرهم لا يعلمون}، أن الله أنزله، فإنك لا تقول إلا ما قد قيل لك.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: وإذا نسخنا حكم آية فأبدلنا مكانه حكم أخرى، {والله أعْلَمُ بما يُنَزّلُ}، يقول: والله أعلم بالذي هو أصلح لخلقه فيما يبدّل ويغير من أحكامه، {قالوا إنما أنْتَ مُفْتَرٍ}، يقول: قال المشركون بالله المكذبو رسوله لرسوله: إنما أنت يا محمد "مفتر"، أي: مكذب تخرص بتقوّل الباطل على الله. يقول الله تعالى: بل أكثر هؤلاء القائلين لك يا محمد إنما أنت مفتر جهالٌ، بأنّ الذي تأتيهم به من عند الله ناسخه ومنسوخه، لا يعلمون حقيقة صحته...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

الآية تحتمل وجهين:...

أحدهما: ما قاله أهل التأويل على التناسخ: أن يبدل آية مكان آية، وهو على تبديل حكم آية بحكم آية أخرى...

والثاني: قوله: {وإذا بدلنا آية مكان آية}، أي: بدلنا حجة بعد حجة...

{قالوا إنما أنت مفتر}، كلما آتاهم حجة على إثر حجة، وآية بعد آية يقولون: {إنما أنت مفتر}، ينسبون إليه الافتراء أنه افترى. وكذلك كانت عادتهم المعاندة والمكابرة كقوله: {وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين} (الأنعام: 4)، وكقوله: {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون} (الأنبياء: 2)، ونحوه من الآيات... كانوا يستقبلونه بالتكذيب لها، ونسبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الافتراء من نفسه، ويزدادون بذلك كفرا...

{والله أعلم بما ينزل}، به صلاحهم وغير صلاحهم، أو أن يكون: {والله أعلم بما ينزل}، من تثبيت قلوب الذين آمنوا كقوله: {ليثبت الذين آمنوا} (النحل 102)، أو أن يكون: {والله أعلم بما ينزل}، جبريل على رسوله جوابا لقولهم {إنما أنت مفتر}، وكقوله: {قل نزله روح القدس من ربك بالحق} (النحل: 102)، أي: ليس مفتر، ولكن نزله جبريل من ربه...

الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :

وذلك أن المشركين قالوا: إن محمداً يسخر بأصحابه، يأمرهم اليوم ويأمّرهم غداً، ويأتيهم بما هو أهون عليهم، وما هو إلا مفتر يتقوله من تلقاء نفسه...

قال الله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}، حقيقة القرآن وبيان الناسخ والمنسوخ من الأحكام...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

تبديل الآية مكان الآية: هو النسخ، والله تعالى ينسخ الشرائع بالشرائع؛ لأنها مصالح، وما كان مصلحة أمس يجوز أن يكون مفسدة اليوم، وخلافه مصلحة. والله تعالى عالم بالمصالح والمفاسد، فيثبت ما يشاء وينسخ ما يشاء بحكمته...

وهذا معنى قوله: {والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قالوا إِنَّمآ أَنتَ مُفْتَرٍ}، وجدوا مدخلاً للطعن فطعنوا، وذلك لجهلهم وبعدهم عن العلم بالناسخ والمنسوخ... وكانوا يقولون: إن محمداً يسخر من أصحابه: يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غداً، فيأتيهم بما هو أهون؛ ولقد افتروا، فقد كان ينسخ الأشق بالأهون، والأهون بالأشق، والأهون بالأهون، والأشق بالأشق؛ لأنّ الغرض المصلحة، لا الهوان والمشقة...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أنه تعالى شرع من هذا الموضوع في حكاية شبهات منكري نبوة محمد صلى الله عليه وسلم... قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان إذا نزلت آية فيها شدة، ثم نزلت آية ألين منها تقول كفار قريش: والله ما محمد إلا يسخر بأصحابه، اليوم يأمر بأمر وغدا ينهى عنه، وإنه لا يقول هذه الأشياء إلا من عند نفسه، فأنزل الله تعالى قوله: {وإذا بدلنا آية مكان آية} ومعنى التبديل، رفع الشيء مع وضع غيره مكانه. وتبديل الآية رفعها بآية أخرى غيرها، وهو نسخها بآية سواها، وقوله: {والله أعلم بما ينزل} اعتراض دخل في الكلام، والمعنى: والله أعلم بما ينزل من الناسخ والمنسوخ والتغليظ والتخفيف، أي هو أعلم بجميع ذلك في مصالح العباد، وهذا توبيخ للكفار على قولهم: {إنما أنت مفتر} أي إذا كان هو أعلم بما ينزل فما بالهم ينسبون محمد صلى الله عليه وسلم إلى الافتراء لأجل التبديل والنسخ. وقوله: {بل أكثرهم لا يعلمون} أي لا يعلمون حقيقة القرآن وفائدة النسخ والتبديل وأن ذلك لمصالح العباد كما أن الطبيب يأمر المريض بشربة، ثم بعد مدة ينهاه عنها، ويأمره بضد تلك الشربة.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ثم عطف على هذا المقدر -الذي دل عليه الكلام- ما أنتجه تسلط الشيطان عليهم، فقال تعالى: {وإذا بدلنا}، أي: بعظمتنا بالنسخ، {ءاية}... فكانت الثانية مكان الأولى وبدلاً منها... والتبديل: رفع الشيء مع وضع غيره مكانه. {والله}، أي: الذي له الإحاطة الشاملة، {أعلم بما ينزل} من المصالح بحسب الأوقات والأحوال بنسخ أو بغيره. {قالوا}، أي: الكفار، {إنما أنت}، أي: يا محمد! {مفتر}، أي: فإنك تأمر اليوم بشيء وغداً تنهى عنه وتأمر بضده، وليس الأمر كما قالوا، {بل أكثرهم}، وهم الذين يستمرون على الكفر، {لا يعلمون}، أي: لا يتجدد لهم علم، بل هم في عداد البهائم؛ لعدم انتفاعهم بما وهبهم الله من العقول، لانهماكهم في اتباع الشيطان، حتى زلت أقدامهم في هذا الأمر الواضح بعد إقامة البرهان بالإعجاز، على أن كل ما كان معجزاً كان من عند الله، سواء كان ناسخاً أو منسوخاً أو لا، فصارت معرفة أن هذا قرآن وهذا غير قرآن بعرضه على هذا البرهان، من أوضح الأمور وأسهلها تناولاً لمن أراد ذلك منهم أو من غيرهم من فرسان البلاغة.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}، فهم جهال لا علم لهم بربهم ولا بشرعه، ومن المعلوم أن قدح الجاهل بلا علم لا عبرة به، فإن القدح في الشيء فرع عن العلم به، وما يشتمل عليه مما يوجب المدح أو القدح.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

إن المشركين لا يدركون وظيفة هذا الكتاب. لا يدركون أنه جاء لإنشاء مجتمع عالمي إنساني، وبناء أمة تقود هذا المجتمع العالمي. وأنه الرسالة الأخيرة التي ليست بعدها من السماء رسالة؛ وأن الله الذي خلق البشر عليم بما يصلح لهم من المبادئ والشرائع. فإذا بدل آية انتهى أجلها واستنفدت أغراضها، ليأتي بآية أخرى أصلح للحالة الجديدة التي صارت إليها الأمة، وأصلح للبقاء بعد ذلك الدهر الطويل الذي لا يعلمه إلا هو، فالشأن له، ومثل آيات هذا الكتاب كمثل الدواء تعطى للمريض منه جرعات حتى يشفى، ثم ينصح بأطعمة أخرى تصلح للبنية العادية في الظروف العادية.

إن المشركين لا يدركون شيئا من هذا كله، ومن ثم لم يدركوا حكمة تبديل آية مكان آية في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فحسبوها افتراء منه وهو الصادق الأمين الذي لم يعهدوا عليه كذبا قط. (بل أكثرهم لا يعلمون)..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

فالمراد من التبديل في قوله تعالى؛ {بدلنا} مطلقُ التغاير بين الأغراض والمقامات، أو التغاير في المعاني واختلافها باختلاف المقاصد والمقامات مع وضوح الجمع بين محاملها...

فيشمل التبديلُ نسخ الأحكام مثل نسخ قوله تعالى: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها} [سورة الإسراء: 110] بقوله تعالى: {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين} [سورة الحجر: 94]. وهذا قليل في القرآن الذي يقرأ على المشركين لأن نسخ الأحكام إنما كثر بعد الهجرة حين تكوّنت الجامعة الإسلامية... ويشمل التعارض بالعموم والخصوص ونحو ذلك من التعارض الذي يحمل بعضه على بعض، فيفسّر بعضه بعضاً ويؤوّل بعضه بعضاً، كقوله تعالى: {والملائكة يسبّحون بحمد ربّهم ويستغفرون لمن في الأرض} في سورة الشورى (5) مع قوله تعالى: {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبّحون بحمد ربّهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا} في سورة المؤمن (7)، فيأخذون بعموم {ويستغفرون لمن في الأرض} [سورة الشورى: 5] فيجعلونه مكذّباً لخصوص {ويستغفرون للذين آمنوا} [سورة غافر: 7] فيزعمونه إعراضاً عن أحد الأمرين إلى الأخير منهما. وكذلك قوله تعالى: {واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً} [سورة المزمل: 10] يأخذون من ظاهره أنه أمر بمتاركتهم فإذا جاءت آيات بعد ذلك لدعوتهم وتهديدهم زعموا أنه انتقض كلامه وبدا له ما لم يكن يبدو له من قبل. وكذلك قوله تعالى: {وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} [سورة الأحقاف: 9] مع آيات وصف عذاب المشركين وثواب المؤمنين. وكذلك قوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [سورة الإسراء: 15] مع قوله تعالى: {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم} [سورة النحل: 25] ومن هذا ما يبدو من تخالف بادئ الأمر كقوله بعد ذكر خلق الأرض {ثم استوى إلى السماء} في [سورة فصلت: 11] مع قوله تعالى: {والأرض بعد ذلك دحاها} من سورة النازعات (30)، فيحسبونه تناقضاً مع الغفلة عن محمل بعد ذلك من جعل (بعد) بمعنى (مع) وهو استعمال كثير، فهم يتوهّمون التناقض مع جهلهم أو تجاهلهم بالوَحَدات الثماني المقرّرة في المنطق. فالتبديل في قوله تعالى: {بدلنا} هو التعويض ببدل، أي عوض. والتعويض لا يقتضي إبطال المعوّض بفتح الواو بل يقتضي أن يجعل شيء عوضاً عن شيء. وقد يبدو للسامع أن مثل لفظ المعوّض بفتح الواو جعل عِوضاً عن مثل لفظ العوض بالكسر في آيات مختلفة باختلاف الأغراض من تبشير وإنذار، أو ترغيب وترهيب، أو إجمال وبيان، فيجعله الطاعنون اضطراباً لأن مثله قد كان بُدل ولا يتأملون في اختلاف الأغراض...

و {بل} للإضراب الإبطالي على كلامهم، وهو من طريقة النقض الإجمالي في علم المناظرة...

ويجوز حمل لفظ أكثر على إرادة جميعهم كما تقدّم في هذه السورة...

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

معجزة القرآن وقولهم فيها

كان المشركون لا يعدون القرآن معجزات النبيين السابقين كعصا موسى وإبراء عيسى للأكمه والأبرص، وإخبار الناس بما في بيوتهم وما يدخرون فيها وإحياء الموتى، وإخراجهم من قبورهم بإذن الله وإنزال المائدة من السماء ليأكلوا منها، كانوا يطالبون النبي صلى الله عليه وسلم بمعجزات مادية حسية، ولا يقنعون بأن تكون المعجزة قرآنا يقرأ فبين الله تعالى أنه الذي يأتي المعجزات الدالة على أنه أرسل الرسل فهي إمارات الرسالة يعلم بها من الرسول بأنه من عنده.

فقال تعالى ردا على طلبهم آية: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمن بها... (109)} [الأنعام].

{وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر}، أي إذا جئتنا بالقرآن آية على صدق الرسول مكان آية أخرى حسية رفضناها وجئنا بهذه الآية المعنوية مكانها، والله صاحب الآيات والرسالات أعلم بالصالح منها، و (أعلم) أفعل تفضيل على غير بابه لأنه لا مفاضلة بين علم الله تعالى، وعلم غيره.

وعلم الله تعالى بما ينزل البالغ أقصى كمال العلم اقتضى أن تكون معجزته قرآنا يقرأ، وباق يتحدى الأجيال جيلا بعد جيل إلى يوم القيامة، وهو القادر على كل شيء، لأن المعجزات الحسية، إعجاز وقتي ينقضى بعد وقته، ولا يعجز إلا من رآه أو تواتر خبره من بعده، وإن القرآن المعجزة الكبرى الخالدة الباقية إلى يوم القيامة هي التي سحلت معجزات النبيين من قبله.

يقولون غير مصدقين معجزة النبي صلى الله عليه وسلم: {إنما أنت مفتر}، أي إنما أنت كذاب قد افتريت الرسالة وادعيتها من غير حجة ولا برهان، وقد رد الله تعالى قولهم بقوله سبحانه: {بل أكثرهم لا يعلمون}، {بل} للرد عليهم، والإضراب عن قولهم الناشئ عنه، وقال سبحانه: {أكثرهم}، للدلالة على الذين صدقوا وآمنوا بالمعجزة هم الأقل عددا، وإن كانوا الأكثرين إدراكا وعلما.

ذكرنا في كلامنا أن معنى الآية المعجزة الدالة على رسالة الرسول، وأن الله تعالى يرفع معجزات كانت قد جاءت مؤيدة رسالات الأنبياء السابقين قد بدلها الله تعالى، وأتى بمعجزة صالحة للبقاء تتناسب مع رسالة خاتم النبيين الذي تكون رسالته حجة على العالمين إلى يوم القيامة فتكون قائمة ثابتة تنادي بحجية ما يدعو إليه يوم القيامة.

ولكن أكثر المفسرين يفسرون الآية بالآية المتلوة حتى الزمخشري، ويقولون إن معنى الآية، وإذا بدل الله آية فنسخها ورفعها وجاء بآية أخرى لمصلحة في الأولى في حكمها في زمانها، والإتيان بآية أخرى لمصلحة حكمها في هذا الزمان الذي جاءت، وإن ذلك جرى على أقلام أولئك المفسرين لرواج فكرة النسخ تلاوة وحكما، وحكما لا تلاوة، وتلاوة لا حكما كما ادعى في الرجم، وإن ذلك أداهم إلى التساهل في دعوى الرجم، ولو كان الجمع بين الآيتين ممكنا لا تخالف بينهما.

وإن الذي ذكرناه أولا هو المقبول عندنا، فلا نسخ في هذا الموضع على الأقل في آية من القرآن للوجوه الآتية.

الوجه الأول – أن الكلام في موضوع القرآن ذاته وكونه مفترى أو قام الدليل على صدقه لظاهر قوله عنهم: {قالوا إنما أنت مفتر} فحصروه في الافتراء فنفوا الرسالة كلها، ويناسب ذلك أن يكون التبديل في المعجزات السابقة، ووضع القرآن في موضعها.

الوجه الثاني – أنه تعالى قال بعد ذلك ردا على الافتراء وعلى الاعتراض بقوله: {قل نزله روح القدس من ربك} فتبين أن موضوعها القرآن كله، لا نسخ آية، واستبدال آية أخرى بها.

الوجه الثالث – قوله تعالى بعد ذلك: {ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين}.

الوجه الرابع – أن هذه السورة مكية، والآيات المكية تتجه نحو التوحيد وإثبات الخالق، وأحكامها قليلة، والتجربة فيها قليلة.

لهذا كله سمحنا لأنفسنا بأن نخالف كثرة المفسرين، وإن كان لهم أجر فيما اجتهدوا، وهو أجر واحد.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}. لم تكن أحكام التشريع الإسلامي تنزل على الناس دفعة واحدة، في وقت واحد، بل كانت تنزل بطريقة التدرّج، بغرض خلق الانسجام بين الحكم الشرعي النازل ونمو الناس الفكري والروحي على هدى الإسلام، وكان ذاك التدرج يستعمل في بعض الحالات أسلوب التغيير والتبديل في الأحكام، تبعاً لبعض المصالح التي يقتضي تحقيقها مراعاة الزمان والمكان، بحيث تطلق مقيدة بتلك الحدود، وتتغير بتغير المصالح التي اقتضتها، إلى أن يلد حكم جديد ثابت لمصلحة دائمة، وقد يتمثل ذلك بالآية التي يمكن أن ينسخ مضمونها آية قرآنية أخرى... وكان الكفار من قريش، يلاحقون ما يعتبرونه نقاط ضعف في حركة الدعوة على مستوى التنزيل والتشريع، ليواجهوا النبي بها ويسقطوا موقعه النبوي في أذهان الناس، لذا فقد رأوا في التبديل في مضمون الآيات أو الأحكام، شاهداً على الافتراء على الله؛ لأنه لا يمكن أن يبدّل الله كلامه، أو يغير أحكامه، وذلك لأنهم لا يفهمون معنى التوقيت في المصلحة التي تكون أساساً للحكم، ما يفرض التبدل الطبيعي عند انتهاء الوقت الذي اقتضاه، والتبدل في هذا الإطار مسألة طبيعية بالنسبة للحكم الشرعي كما هو بالنسبة لأي موضوع آخر، حيث لا يكون التبدل دليلاً على التنافي والتناقض فيه، ليكون بالتالي دليلاً على الافتراء كما يزعمون، وهذا ما أثارته الآية في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ}، فهو الذي يعلم المصالح الكامنة في الأشياء، ويعرف حدودها، مما لا يعلم البشر الكثير منه، أو لا يعلم الأكثر منهم وجه المصلحة فيه.