الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{مَتَٰعٞ قَلِيلٞ ثُمَّ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ} (197)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

فإنما هو {متاع قليل} يمتعون بها إلى آجالهم، {ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد}، فبين الله تعالى مصيرهم.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وأما قوله: {مَتاعٌ قَلِيلٌ} فإنه يعني: أن تقلبهم في البلاد وتصرفهم فيها متعة يمتعون بها قليلاً، حتى يبلغوا آجالهم، فتخترمهم منياتهم، ثم مأواهم جهنم بعد مماتهم، والمأوى: المصير الذي يأوون إليه يوم القيامة، فيصيرون فيه. ويعني بقوله: {وَبِئْسَ المِهادُ} وبئس الفراش والمضجع جهنم.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

وقوله:"متاع قليل" معناه ذلك الكسب، والربح الذي يربحونه متاع قليل، وسماه متاعا، لأنهم متعوا به في الدنيا، والمتاع: النفع الذي تتعجل به اللذة إما بوجود اللذة أو بما يكون به اللذة نحو المال الجليل، والملك، وغير ذلك من الأولاد والإخوان. ووصفه بالقلة لسرعة زواله وانقطاعه، وذلك قليل بالإضافة إلى نعيم الآخرة. والمهاد: الموضع الذي يسكن فيه الإنسان ويفترشه. ووصفه بأنه بئس المهاد على ضرب من المجاز، لما فيه من أنواع العذاب...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 196]

لا تتداخلنك تهمة بأنَّ لهم عندنا قدراً وقيمة إنما هي أيام قلائل وأنفاس معدودة، ثم بعدها حسرات مترادفة، وأحزان متضاعفة.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{متاع قَلِيلٌ} خبر مبتدأ محذوف، أي ذلك متاع قليل وهو التقلب في البلاد، أراد قلته في جنب ما فاتهم من نعيم الآخرة، أو في جنب ما أعدّ الله للمؤمنين من الثواب، أو أراد أنه قليل في نفسه لانقضائه وكل زائل قليل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع" {وَبِئْسَ المهاد} وساء ما مهدوا لأنفسهم.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

ثم قال تعالى: {متاع قليل} قيل: أي تقلبهم متاع قليل، وقال الفراء: ذلك متاع قليل، وقال الزجاج: ذلك الكسب والربح متاع قليل، وإنما وصفه الله تعالى بالقلة لأن نعيم الدنيا مشوب بالآفات والحسرات، ثم إنه بالعاقبة ينقطع وينقضي، وكيف لا يكون قليلا وقد كان معدوما من الأزل إلى الآن، وسيصير معدوما من الأزل إلى الأبد، فإذا قابلت زمان الوجود بما مضى وما يأتي وهو الأزل والأبد، كان أقل من أن يجوز وصفه بأنه قليل. ثم قال تعالى: {ثم مأواهم جهنم} يعني أنه مع قلته يسبب الوقوع في نار جهنم أبد الآباد والنعمة القليلة إذا كانت سببا للمضرة العظيمة لم يعد ذلك نعمة، وهو كقوله: {إنما نملى لهم ليزدادوا إثما} وقوله: {وأملي لهم إن كيدي متين}. ثم قال: {وبئس المهاد} أي الفراش، والدليل على أنه بئس المهاد قوله تعالى: {لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل} فهم بين أطباق النيران، ومن فوقهم غواش يأكلون النار ويشربون النار.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

(متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد) أي ذلك التقلب في البلاد الذي يتمتعون به متاع قليل عاقبته هذا المأوى الذي ينتهون إليه في الآخرة، فيكونون خالدين فيه سواء منهم من مات متمتعا بدنياه ومن أنسئ له في عمره حتى أدركه الخذلان بنصر الله المؤمنين فسلب منه متاعه أو نغصه عليه. وأما المؤمنون فسيأتي ما لهم في مقابلة هذا في الآية الآتية. وجهنم اسم للدار التي يجازى فيها الكافرون في الآخرة.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

والمهاد هو المكان الممهد والفراش اللين، ويكون التعبير عن مآلهم بالمهاد من قبيل التهكم. ويصح أن يقال إنهم هم الذين مهدوه لنفسهم، ويكون المعنى: بئس الذي مهدوا به لنفسهم، أي أنهم بأعمالهم في الدنيا قد مهدوا لنفسهم فراشا من اللظى والجحيم، وبئس هذا المهاد. وفي هذا تعزية للمؤمنين أبلغ تعزية..

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

ثمّ تقول: (متاع قليل) أي أنّ هذه النّجاحات المادية التي يحرزها المشركون، وهذه الثروات الهائلة التي يحصلون عليها من كل سبيل ليست سوى متاع قليل، ولذّة عابرة.

(ثمّ مأواهم جهنم وبئس المهاد) فالملذات المادية تستعقب عواقب سيئة، فإنّ مسؤولية هذه الأموال والثروات ستجرّهم إِلى مصير مشؤوم، ذلك هو الجحيم الذي سيكون محطتهم الأخيرة ومآلهم وبئس المآل.

إِنّ هذه الآية تشير في الحقيقة إِلى نقطتين:

الأُولى: إِنّ أكثر مظاهر تفوّق هؤلاء العصاة الطّغاة الظالمين محدودة الأبعاد، كما أنّ متاعب أكثر المؤمنين ومشاكلهم ومحنهم كذلك مؤقتة ومحدودة أيضاً.

وأفضل شاهد على هذا الموضوع هو ما نلاحظه في حياة المسلمين وحياة أعدائهم ومناوئيهم في صدر الإِسلام.

فحيث أنّ الحكومة الإِسلامية كانت آنذاك في بداية أمرها كنبتة شابّة لا تمتلك كل عناصر القوّة والمنعة لم تكن تملك القدرة الكاملة على الدفاع عن حوزتها وكيانها أمام هجوم أعدائها الألداء الذين كانوا يهاجمونها بشراسة ودونما رحمة، وخاصّة أنّ هجرة المسلمين الذين كانوا جماعة قليلة في مكّة جعلتهم في وضع حرج جدّاً إِلى درجة أنّهم فقدوا كل شيء في الهجرة، ولا يختص مثل هذا الوضع بهم، بل يتعرض لمثل هذه المعاناة ومثل هذا الوضع كل من يناصر ثورة تغييرية، ونهضة معنوية وروحية جذرية في مجتمع فاسد يراد تغييره بها.

ولكننا نعلم أنّ هذا الوضع لم يدم طويلا، فما لثبت الحكومة الإِسلامية إِلاّ أن ترسخت جذورها وقويت دعائمها، واشتدّ أمرها، وقويت شوكتها، وانحدرت الأموال إِلى مركز الإِسلام من كل صوب وحدب، فانعكس الوضع تماماً، إِذ عاد المترفون الكافرون والأعداء المتنعمون الذين كانوا يرفلون في النعيم والخير مساكين وفقدوا كل ذلك النعيم، وهذا هو ما يعنيه قوله سبحانه: (متاع قليل).

الثّانية: إِن النّجاحات المادية التي يحرزها بعض العصاة والفاسقين إِنّما هي لكونهم لا يتقيدون في جمع الثّروة بأي قيد أو شرط، فهم يجمعون المال من كل سبيل، سواء كان مشروعاً أم غير مشروع، حراماً كان أم حلالا، بل إنّهم يجوزون لأنفسهم اكتناز الثروة حتى على حساب الضعفاء والفقراء وامتصاص دمائهم، في حين يتقيد المؤمنون بمبادئ الحق والعدالة في هذا المجال، فلا يسوغون لأنفسهم بأن يكتسبوا المال من أي طريق كان، وأي سبيل اتفق، ولهذا لا يمكن أو لا تصح المقارنة والمقايسة بين هؤلاء وهؤلاء.

هؤلاء يشعرون بالمسؤولية الثّقيلة، وأُولئك لا يشعرون بأية مسؤولية، ولا يعترفون بأي ضابطة، وحيث إن الحياة الحاضرة حياة الإِرادة البشرية الحرّة، وعالم الاختيار الحر، كان طبيعياً أن يترك الله سبحانه كلتا الطائفتين أحراراً ليتصرفوا كيف شاءوا، ولينتهوا في المآل إِلى نتائج أعمالهم التي اكتسبوها بأيديهم، وهو ما يقصده ويعنيه سبحانه، بقوله في ختام هذه الآية: (ثمّ مأواهم جهنم وبئس المهاد).

معرفة نقاط الضّعف والقوّة معاً:

ثمّ أن هناك سبباً آخر لتقدم ونجاح بعض الكفار والفاسقين، وتأخر بعض المؤمنين هو أن الطائفة الأُولى رغم خلوهم من عنصر الإِيمان يتحلون أحياناً ببعض نقاط القوّة التي يحققون في ظلّها ما يحققون من المكاسب، ويحرزون ما يحرزون من النجاحات، فيما تعاني الطائفة الثانية من نقاط ضعف توجب تأخرهم وانحطاطهم.

فنحن نعرف أشخاصاً رغم انقطاعهم عن الله يتسمون بالجدّية الكبيرة في أعمالهم، ويتحلّون بالاستقامة والعزم، والتنسيق والتعاون فيما بينهم، والمعرفة بقضايا العصر ومتطلباته، ومقتضياته ومستجداته، ومن الطبيعي أن يحقق هؤلاء مكاسب كبيرة ويحرزوا انتصارات ونجاحات في حياتهم المادية، وما هم في هذا الأمر في الحقيقة إِلاّ مطبقون لتعاليم الدين وبرامجه من دون إِسنادها إِلى الدين وإعطائها صفته وصبغته.

وفي المقابل، هناك أشخاص متدينون أوفياء للعقائد الدينية، لكنهم بسبب غفلتهم عن تعاليم الدين الحيوية يعانون من الجبن والإِحجام، ويفتقرون إِلى الشهامة والاستقامة ويفقدون عنصر الثبات والاستمرار والاتحاد والتعاون، وطبيعي أن يصاب هذا الصنف من الناس بإِخفاقات متلاحقة وهزائم متتابعة، ولكن هذه الهزائم والإِخفاقات ليست أبداً بسبب إِيمانهم بالله، بل هي بسبب ما بهم من نقاط الضعف، وما بأنفسهم من عوامل الهزيمة، وموجبات السقوط والإِخفاق.

إنّهم يتصورون، وبالأحرى يظنون، بأنهم سينتصرون بمجرد الصلاة والصوم في جميع المجالات، وينجحون في جميع المواقف، في حين جاء الدين بسلسلة من البرامج والمناهج العملية الحيوية للتقدم والنجاح في الحياة، يستلزم تجاهلها الفشل والسقوط والهزيمة.

إِنّ لكلّ شيء سبباً، ولكل نجاح مفتاحه الخاص، ووسيلته الخاصّة، وقد أتى الدِّين بكل ذلك، وبيّنه في تعالميه وتوصياته، فلا يمكن أن يتحقق نجاح بغير هذه التعاليم وبغير هذه الوسائل.

وخلاصة القول: إِنه لدى كل طائفة من هاتين الطائفتين نقاط ضعف، ونقاط قوّة، ولكل واحدة منها آثارها ونتائجها الطبيعية، غاية ما في الأمر أنه قد تلتبس هذه الآثار وتشتبه على المرء عند التقييم والمحاسبة.

مثلا: هناك كافر يتمتع لسعيه وجهاده واستمراره في أعماله بالحياة ويحقق في هذا المجال النجاح تلو النجاح، ولكنّه إِذ يفتقد عنصر الإِيمان بالله فإِنّه يفتقر إِلى نعمة الطمأنينة النفسية وفضيلة المشاعر الطاهرة، والأهداف الإِنسانية العالية.

يبقى أن نعرف أن ما ذكرناه من العوامل الثلاث لتقدم الكفار ونجاحهم، وتأخر بعض المؤمنين وفشلهم لا تصدق في مكان واحد، بل لكل واحد منها مورده ومجاله الخاص.