تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا اصبروا} على أمر الله عز وجل وفرائضه، {وصابروا} مع النبي صلى الله عليه وسلم في المواطن، {ورابطوا} العدو في سبيل الله حتى يدعوا دينهم لدينكم، {واتقوا الله} ولا تعصوا، ومن يفعل ذلك فقد أفلح، فذلك قوله: {لعلكم تفلحون}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم: معنى ذلك: اصبروا على دينكم، وصابروا الكفار ورابطوهم... عن الحسن أنه سمعه يقول في قول الله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} قال: أمرهم أن يصبروا على دينهم، ولا يدعوه لشدّة ولا رخاء، ولا سرّاء ولا ضرّاء، وأمرهم أن يصابروا الكفار، وأن يرابطوا المشركين...
وقال آخرون: معنى ذلك: اصبروا على دينكم، وصابروا وعدي إياكم على طاعتكم لي، ورابطوا أعداءكم...
وقال آخرون: معنى ذلك: اصبروا على الجهاد، وصابروا عدوّكم ورابطوهم... عن زيد بن أسلم، قال: كتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب، فذكر له جموعا من الروم وما يتخوّف منهم، فكتب إليه عمر: أما بعد، فإنه مهما نزل بعبد مؤمن منزلة شدة يجعل الله بعدها فرجا، وإنه لن يغلب عسر يسرين، وإن الله يقول في كتابه: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
وقال آخرون: معنى: {وَرَابِطُوا}: أي رابطوا على الصلوات: أي انتظروها واحدة بعد واحدة...
وأولى التأويلات بتأويل الآية، قول من قال في ذلك: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا}: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله، اصبروا على دينكم، وطاعة ربكم، وذلك أن الله لم يخصص من معاني الصبر على الدين والطاعة شيئا فيجوز إخراجه من ظاهر التنزيل. فلذلك قلنا إنه عنى بقوله: {اصْبِرُوا} الأمر بالصبر على جميع معاني طاعة الله فيما أمر ونهى، صعبها وشديدها، وسهلها وخفيفها. {وَصَابِرُوا} يعني: وصابروا أعداءكم من المشركين.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن المعروف من كلام العرب في المفاعلة، أن تكون من فريقين، أو اثنين فصاعدا، ولا تكون من واحد إلا قليلاً في أحرف معدودة، وإذ كان ذلك كذلك، فإنما أمر المؤمنون أن يصابروا غيرهم من أعدائهم، حتى يظفرهم الله بهم، ويعلي كلمته، ويخزي أعداءهم، وأن لا يكن عدوّهم أصبر منهم. وكذلك قوله {وَرَابِطُوا} معناه: ورابطوا أعداءكم وأعداء دينكم من أهل الشرك في سبيل الله. وأرى أنّ أصل الرباط: ارتباط الخيل للعدوّ، كما ارتبط عدوّهم لهم خيلهم، ثم استعمل ذلك في كل مقيم في ثغر، يدفع عمن وراءه من أراده من أعدائهم بسوء، ويحمي عنهم من بينه وبينهم، ممن بغاهم بشرّ كان ذا خيل قد ارتبطها، أو ذا رُجْلة لا مركب له.
وإنما قلنا: معنى {وَرَابِطُوا}: ورابطوا أعداءكم وأعداء دينكم، لأن ذلك هو المعنى المعروف من معاني الرباط. وإنما توجه الكلام إلى الأغلب المعروف في استعمال الناس من معانيه دون الخفيّ، حتى يأتي بخلاف ذلك ما يوجب صرفه إلى الخفيّ من معانيه حجةٌ يجب التسليم لها من كتاب أو خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو إجماع من أهل التأويل.
{وَاتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
يعني بذلك تعالى ذكره: واتقوا الله أيها المؤمنون، واحذروه أن تخالفوا أمره، أو تتقدّموا نهيه، {لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ} يقول: لتفلحوا فتبقوا في نعيم الأبد، وتنجحوا في طلباتكم عنده.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الصبر فيما تفرد به العبد، والمصابرة مع العدو. والرباط نوع من الصبر ولكن على وجه مخصوص. ويقال أول الصبر التصبر، ثم الصبر ثم المصابرة ثم الاصطبار وهو نهاية. ويقال اصبروا على الطاعات وعن المخالفات، وتصابروا في ترك الهوى والشهوات، وقطع المنى والعلاقات، ورابطوا بالاستقامة في الصحبة في عموم الأوقات والحالات.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَصَابِرُواْ} أعداء الله في الجهاد، أي غالبوهم في الصبر على شدائد الحرب لا تكونوا أقل صبراً منهم وثباتاً والمصابرة: باب من الصبر ذكر بعد الصبر على ما يجب الصبر عليه، تخصيصاً لشدته وصعوبته {وَرَابِطُواْ} وأقيموا في الثغور رابطين خيلكم فيها، مترصدين مستعدين للغزو.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم ختم الله تعالى السورة بهذه الوصاة التي جمعت الظهور في الدنيا على الأعداء، والفوز بنعيم الآخرة، فحض على الصبر على الطاعات وعن الشهوات، وأمر بالمصابرة فقيل: معناه مصابرة الأعداء، قاله زيد بن أسلم، وقيل معناه: مصابرة وعد الله في النصر، قاله محمد بن كعب القرظي: أي لا تسأموا وانتظروا الفرج، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انتظار الفرج بالصبر عبادة».
وكذلك اختلف المتأولون في معنى قوله {ورابطوا} فقال جمهور الأمة معناه: رابطوا أعداءكم الخيل، أي ارتبطوها كما يرتبطها أعداؤكم، ومنه قوله عز وجل: {ومن رباط الخيل}... والقول الصحيح هو أن الرباط هو الملازمة في سبيل الله أصلها من ربط الخيل، ثم سمي كل ملازم لثغر من ثغور الإسلام مرابطاً، فارساً كان أو راجلاً، واللفظة مأخوذة من الربط...
وقوله: {لعلكم تفلحون} ترجّ في حق البشر.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
المسألة الأولى: في شرح ألفاظها:
الصبر: عبارة عن حَبْس النفس عن شهواتها، والمصابرة: إدامةُ مخالفتها في ذلك؛ فهي تَدْعُو وهو ينزع. والمرابطة: العقد على الشيء حتى لا يبخل فيعود إلى ما كان صَبَر عنه.
الأول: اصبروا على دينكم، وصابروا وَعْدِي لكم، ورابطوا أعداءكم.
الثاني: اصبروا على الجهاد، وصابروا العدوّ، ورابطُوا الخيل.
الثالث: مثله إلا قوله: رَابطوا؛ فإنه أراد بذلك رابطوا الصلوات.
المسألة الثالثة: في حقيقة ذلك، وهو أنَّ الصبر: حَبْس النفس عن مكروهها المختصّ بها. والمصابرة: حَمْل مكروهٍ يكونُ بها وبغيرها؛ الأول كالمرض، والثاني كالجهاد.
والرباط: حَمْلُ النفس على النية الحسنة والجسم على فِعْل الطاعة، ومن أعظمه ارتباط الخيل في سبيلِ الله، وارتباط النفس على الصلوات، على ما جاء في الحديث الصحيح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الخيلُ ثلاثة: لرجل أَجْر ولرجل سَتْر وعلى رَجلٍ وِزْر؛ فأما الذي هي له أجْرٌ فرجُلٌ ربطها في سبيل الله فأطال لها في مَرْج أو روضة، فما أصابت في طيلها ذلك من الْمَرْج أو الروضة كانت له حسنات. ولو أنها مرَّت بنهر فشربت منه ولم يُرِدْ أن يَسقِيها كان ذلك حسنات فهي له أجر». وذكر الحديث.
وقال عليه السلام: «ألا أدلُّكم على ما يمحو اللهُ به الخطايا ويرفَعُ به الدرجات: إسباغُ الوضوء على المكاره، وكَثْرَةُ الْخُطَا إلى المساجد، وانتظارُ الصلاةِ بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرِّبَاط، فذلكم الرباط – ثلاثاً».
فبيَّن النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ أولاه وأفْضَله في نوعي الطاعة المتعدي بالمنفعة إلى الغير وهو الأفضل، وإلزام المختصّ بالفاعل وهو دونه، وبعد ذلك تتفاضلُ العقائد والأعمال بحسب متعلّقاتها، وليس ذلك من الأحكام فنفيض منه.
اعلم أنه تعالى لما ذكر في هذه السورة أنواعا كثيرة من علوم الأصول والفروع، أما الأصول ففيما يتعلق بتقرير التوحيد والعدل والنبوة والمعاد، وأما الفروع ففيما يتعلق بالتكاليف والأحكام نحو الحج والجهاد وغيرهما، ختم هذه السورة بهذه الآية المشتملة على جميع الآداب، وذلك لأن أحوال الإنسان قسمان: منها ما يتعلق به وحده، ومنها ما يكون مشتركا بينه وبين غيره، أما القسم الأول فلا بد فيه من الصبر، وأما القسم الثاني فلا بد فيه من المصابرة.
أما الصبر فيندرج تحته أنواع: أولها: أن يصبر على مشقة النظر والاستدلال في معرفة التوحيد والعدل والنبوة والمعاد، وعلى مشقة استنباط الجواب عن شبهات المخالفين. وثانيها: أن يصبر على مشقة أداء الواجبات والمندوبات. وثالثها: أن يصبر على مشقة الاحتراز عن المنهيات. ورابعها: الصبر على شدائد الدنيا وآفاتها من المرض والفقر والقحط والخوف، فقوله: {اصبروا} يدخل تحته هذه الأقسام، وتحت كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة أنواع لا نهاية لها، وأما المصابرة فهي عبارة عن تحمل المكاره الواقعة بينه وبين الغير، ويدخل فيه تحمل الأخلاق الردية من أهل البيت والجيران والأقارب، ويدخل فيه ترك الانتقام ممن أساء إليك كما قال: {وأعرض عن الجاهلين} وقال: {وإذا مروا باللغو مروا كراما} ويدخل فيه الإيثار على الغير كما قال: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} ويدخل فيه العفو عمن ظلمك كما قال: {وأن تعفوا أقرب للتقوى} ويدخل فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن المقدم عليه ربما وصل إليه بسببه ضرر، ويدخل فيه الجهاد فإنه تعريض النفس للهلاك، ويدخل فيه المصابرة مع المبطلين، وحل شكوكهم والجواب عن شبههم، والاحتيال في إزالة تلك الأباطيل عن قلوبهم، فثبت أن قوله {اصبروا} تناول كل ما تعلق به وحده {وصابروا} تناول كل ما كان مشتركا بينه وبين غيره.
واعلم أن الإنسان وأن تكلف الصبر والمصابرة إلا أن فيه أخلاقا ذميمة تحمل على أضدادها وهي الشهوة والغضب والحرص، والإنسان ما لم يكن مشتغلا طول عمره بمجاهدتها وقهرها لا يمكنه الإتيان بالصبر والمصابرة، فلهذا قال: {ورابطوا} ولما كانت هذه المجاهدة فعلا من الأفعال ولا بد للإنسان في كل فعل يفعله من داعية وغرض، وجب أن يكون للإنسان في هذه المجاهدة غرض وباعث، وذلك هو تقوى الله لنيل الفلاح والنجاح، فلهذا قال: {واتقوا الله لعلكم تفلحون} وتمام التحقيق فيه أن الأفعال مصدرها هو القوى، فهو تعالى أمر بالصبر والمصابرة، وذلك عبارة عن الإتيان بالأفعال الحسنة، والاحتراز عن الأفعال الذميمة، ولما كانت الأفعال صادرة عن القوى أمر بعد ذلك بمجاهدة القوى التي هي مصادر الأفعال الذميمة، وذلك هو المراد بالمرابطة، ثم ذكر ما به يحصل دفع هذه القوى الداعية إلى القبائح والمنكرات، وذلك هو تقوى الله، ثم ذكر ما لأجله وجب ترجيح تقوى الله على سائر القوى والأخلاق، وهو الفلاح، فظهر أن هذه الآية التي هي خاتمة لهذه السورة مشتملة على كنوز الحكم والإسرار الروحانية، وإنها على اختصارها كالمتمم لكل ما تقدم ذكره في هذه السورة من علوم الأصول والفروع فهذا ما عندي فيه.
ولنذكر ما قاله المفسرون: قال الحسن: اصبروا على دينكم ولا تتركوه بسبب الفقر والجوع، وصابروا على عدوكم ولا تفشلوا بسبب وقوع الهزيمة يوم أحد، وقال الفراء: اصبروا مع نبيكم وصابروا عدوكم فلا ينبغي أن يكون أصبر منكم، وقال الأصم: لما كثرت تكاليف الله في هذه السورة أمرهم بالصبر عليها، ولما كثر ترغيب الله تعالى في الجهاد في هذه السورة أمرهم بمصابرة الأعداء.
وأما قوله: {ورابطوا} ففيه قولان: الأول: أنه عبارة عن أن يربط هؤلاء خيلهم في الثغور ويربط أولئك خيلهم أيضا، بحيث يكون كل واحد من الخصمين مستعدا لقتال الآخر، قال تعالى: {ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم} وعن النبي صلى الله عليه وسلم «من رابط يوما وليلة في سبيل الله كان مثل صيام شهر وقيامه لا يفطر ولا ينتقل عن صلاته إلا لحاجة» الثاني: أن معنى المرابطة انتظار الصلاة بعد الصلاة ويدل عليه وجهان: الأول: ما روي عن أبي سلمة عبد الرحمن أنه قال: لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه، وإنما نزلت هذه الآية في انتظار الصلاة بعد الصلاة. الثاني: ما روي من حديث أبي هريرة حين ذكر انتظار الصلاة بعد الصلاة ثم قال: «فذلكم الرباط» ثلاث مرات.
واعلم أنه يمكن حمل اللفظ على الكل، وأصل الرباط من الربط وهو الشد، يقال: لكل من صبر على أمر ربط قلبه عليه، وقال آخرون: الرباط هو اللزوم والثبات، وهذا المعنى أيضا راجع إلى ما ذكرناه من الصبر وربط النفس، ثم هذا الثبات والدوام يجوز أن يكون على الجهاد، ويجوز أن يكون على الصلاة والله أعلم.
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
أمرهم بالصبر، وهو حال الصابر في نفسه. و«المصابرة»: مقاومة الخصم في ميدان الصبر، فإنها مفاعلة، تستدعي وقوفها بين اثنين، كالمشاتمة والمضاربة -فهي حال المؤمن في الصبر مع خصمه. و«المرابطة»: وهى الثبات واللزوم، والإقامة على الصبر والمصابرة. فقد يصبر العبد ولا يصابر، وقد يصابر ولا يرابط. وقد يصبر ولا يصابر، ويرابط من غير تعبد بالتقوى. فأخبر سبحانه أن ملاك ذلك كله: التقوى، وأن الفلاح موقوف عليها. فقال: {واتقوا الله لعلكم تفلحون}. فالمرابطة كما أنها لزوم الثغر الذي يخاف هجوم العدو منه في الظاهر، فهي لزوم ثغر القلب لئلا يدخل منه الهوى والشيطان، فيزيله عن مملكته.
الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي 875 هـ :
خَتَمَ اللَّه سُبْحانه السُّورة بهذه الوَصَاةِ التي جَمَعَتِ الظُّهورَ في الدنيا علَى الأعداء، والفَوْزَ بنعيمِ الآخرةِ، فحضَّ سبحانه على الصبْرِ على الطاعات، وعنِ الشهواتِ، وأَمَرَ بالمصابرةِ..
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
(يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون) قال الأستاذ الإمام: أي اصبروا على ما يلحقكم من الأذى، وصابروا الأعداء الذين يقاومونكم ليغلبوكم على أمركم ويخذلون الحق الذي في أيديكم، ورابطوا الخيل كما يربطونها استعدادا للجهاد.
أقول: فالمصابرة والمرابطة وهي الرباط بمعنى مباراة الأعداء ومغالبتهم في الصبر وفي ربط الخيل كما قال: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل) [الأنفال: 60] على الأصل الذي قرره الإسلام من مقاتلتهم بمثل ما يقاتلوننا به. فيدخل في ذلك مباراتهم في هذا العصر بعمل البنادق والمدافع والسفن والآلات البحرية والبرية والهوائية، وغير ذلك من الفنون والعدد العسكرية، ويتوقف ذلك كله على البراعة في العلوم الرياضية والطبيعية، فهي واجبة على المسلمين في هذا العصر لأن الواجب من الاستعداد العسكري لا يتم إلا بها. وقد أطلق لفظ المرابطة عند المسلمين على الإقامة في ثغور البلاد وهي مداخلها على حدود المحاربين لأجل الدفاع عنها إذا هاجمها الأعداء فإن هؤلاء يقيمون فيها ويقومون في أثناء ذلك بربط خيولهم وخدمتها وغير ذلك مما يحتاج إليه من الاستعداد.
وقال الأستاذ الإمام في الوصية بالتقوى: يكثر الله تعالى من هذه الوصية، ومع ذلك نرى الناس قد انصرفوا عنها بتة حتى صار التقي عند الناس هو الأهبل الذي لا يعقل مصلحته ولا مصلحة الناس. ولا شيء أشأم على التقوى من فهمها بهذا المعنى.
التقوى: أن تقي نفسك من الله أي من غضبه وسخطه وعقوبته، ولا يمكن هذا إلا بعد معرفته ومعرفة ما يرضيه وما يسخطه. ولا يعرف هذا إلا من فهم كتاب الله تعالى وعرف سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وسيرة سلف الأمة الصالح، مطالبا نفسه بالاهتداء بذلك كله. فمن صبر وصابر ورابط لأجل حماية الحق وأهله، ونشر دعوته، واتقى ربه في سائر شؤونه، فقد أعد نفسه بذلك للفلاح والفوز بالسعادة عند الله تعالى.
وأقول: إن الفلاح هو الفوز والظفر بالبغية المقصودة من العمل، وقد يكون ذلك خاصا بالدنيا كما في قوله تعالى حكاية عن فرعون: (وقد أفلح اليوم من استعلى) [طه: 64] وقد يكون خاصا بالآخرة كقوله حكاية عن أهل الكهف: (ولن تفلحوا إذا أبدا) [الكهف: 20] ويكون مشتركا بين الدارين. وعندي أن أكثر وعد القرآن المؤمنين من هذا النوع. وإرادة الفلاح الدنيوي من الآية التي نفسرها ظاهرة، فإن الصبر ومصابرة الأعداء والمرابطة والتقوى كلها من أسباب الفوز على الأعداء في الدنيا، كما أنها مع حسن النية وقصد إقامة الحق والعدل- الذي هو شأن المؤمن- من أسباب سعادة الآخرة. وهذه الأعمال كلها اختيارية داخلة في مقدور الإنسان. ولذلك أمر بها فعمله إذا هو سبب فلاحه.
فنسأل الله تعالى أن ينيلنا ما أرشدنا إليه وأقدرنا على أسبابه من سعادة الدارين.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يجيء الإيقاع الأخير، في نداء الله للذين آمنوا، وتلخيص أعباء المنهج، وشرط الطريق: (يا أيها الذين آمنوا اصبروا، وصابروا، ورابطوا، واتقوا الله لعلكم تفلحون)..
إنه النداء العلوي للذين آمنوا. نداؤهم بالصفة التي تربطهم بمصدر النداء. والتي تلقي عليهم هذه الأعباء. والتي تؤهلهم للنداء وتؤهلهم للأعباء، وتكرمهم في الأرض كما تكرمهم في السماء:
النداء لهم. للصبر والمصابرة، والمرابطة، والتقوى..
وسياق السورة حافل بذكر الصبر وبذكر التقوى.. يذكر إن مفردين، ويذكر إن مجتمعين.. وسياق السورة حافل كذلك بالدعوة إلى الاحتمال والمجاهدة ودفع الكيد وعدم الاستماع لدعاة الهزيمة والبلبلة، ومن ثم تختم السورة بالدعوة إلى الصبر والمصابرة، وإلى المرابطة والتقوى، فيكون هذا أنسب ختام.
والصبر هو زاد الطريق في هذه الدعوة. إنه طريق طويل شاق، حافل بالعقبات والأشواك، مفروش بالدماء والأشلاء، وبالإيذاء والابتلاء.. الصبر على أشياء كثيرة: الصبر على شهوات النفس ورغائبها، وأطماعها ومطامحها، وضعفها ونقصها، وعجلتها وملالها من قريب! والصبر على شهوات الناس ونقصهم وضعفهم وجهلهم وسوء تصورهم، وانحراف طباعهم، وأثرتهم، وغرورهم، والتوائهم، واستعجالهم للثمار! والصبر على تنفج الباطل، ووقاحة الطغيان، وانتفاش الشر، وغلبة الشهوة، وتصعير الغرور والخيلاء! والصبر على قلة الناصر، وضعف المعين، وطول الطريق، ووساوس الشيطان في ساعات الكرب والضيق! والصبر على مرارة الجهاد لهذا كله، وما تثيره في النفس من انفعالات متنوعة. من الألم والغيظ، والحنق، والضيق، وضعف الثقة أحيانا في الخير، وقلة الرجاء أحيانا في الفطرة البشرية؛ والملل والسأم واليأس أحيانا والقنوط! والصبر بعد ذلك كله على ضبط النفس في ساعة القدرة والانتصار والغلبة، واستقبال الرخاء في تواضع وشكر، وبدون خيلاء وبدون اندفاع إلى الانتقام، وتجاوز القصاص الحق إلى الاعتداء! والبقاء في السراء والضراء على صلة بالله، واستسلام لقدره، ورد الأمر إليه كله في طمأنينة وثقة وخشوع..
والصبر على هذا كله -وعلى مثله- مما يصادف السالك في هذا الطريق الطويل.. لا تصوره حقيقة الكلمات. فالكلمات لا تنقل المدلول الحقيقي لهذه المعاناة. إنما يدرك هذا المدلول من عانى مشقات الطريق؛ وتذوقها انفعالات وتجارب ومرارات!
والذين آمنوا كانوا قد ذاقوا جوانب كثيرة من ذلك المدلول الحقيقي. فكانوا أعرف بمذاق هذا النداء. كانوا يعرفون معنى الصبر الذي يطلب الله إليهم أن يزاولوه..
والمصابرة.. وهي مفاعلة من الصبر.. مصابرة هذه المشاعر كلها، ومصابرة الأعداء الذين يحاولون جاهدين أن يفلوا من صبر المؤمنين.. مصابرتها ومصابرتهم، فلا ينفد صبر المؤمنين على طول المجاهدة. بل يظلون أصبر من أعدائهم وأقوى: أعدائهم من كوامن الصدور، وأعدائهم من شرار الناس سواء. فكأنما هو رهان وسباق بينهم وبين أعدائهم، يدعون فيه إلى مقابلة الصبر بالصبر، والدفع بالدفع، والجهد بالجهد، والإصرار بالإصرار.. ثم تكون لهم عاقبة الشوط بأن يكونوا أثبت وأصبر من الأعداء. وإذا كان الباطل يصر ويصبر ويمضي في الطريق، فما أجدر الحق أن يكون أشد إصرارا وأعظم صبرا على المضي في الطريق!
والمرابطة.. الإقامة في مواقع الجهاد، وفي الثغور المعرضة لهجوم الأعداء.. وقد كانت الجماعة المسلمة لا تغفل عيونها أبدا، ولا تستسلم للرقاد! فما هادنها أعداؤها قط، منذ أن نوديت لحمل أعباء الدعوة، والتعرض بها للناس. وما يهادنها أعداؤها قط في أي زمان أو في أي مكان وما تستغني عن المرابطة للجهاد، حيثما كانت إلى آخر الزمان!
إن هذه الدعوة تواجه الناس بمنهج حياة واقعي. منهج يتحكم في ضمائرهم، كما يتحكم في أموالهم، كما يتحكم في نظام حياتهم ومعايشهم. منهج خير عادل مستقيم. ولكن الشر لا يستريح للمنهج الخير العادل المستقيم؛ والباطل لا يحب الخير والعدل والاستقامة؛ والطغيان لا يسلم للعدل والمساواة والكرامة.. ومن ثم ينهد لهذه الدعوة أعداء من أصحاب الشر والباطل والطغيان. ينهد لحربها المستنفعون المستغلون الذين لا يريدون أن يتخلوا عن الاستنفاع والاستغلال. وينهد لحربها الطغاة المستكبرون الذين لا يريدون أن يتخلوا عن الطغيان والاستكبار. وينهد لحربها المستهترون المنحلون، لأنهم لا يريدون أن يتخلوا عن الانحلال والشهوات.. ولا بد من مجاهدتهم جميعا. ولا بد من الصبر والمصابرة. ولا بد من المرابطة والحراسة. كي لا تؤخذ الأمة المسلمة على غرة من أعدائها الطبيعيين، الدائمين في كل أرض وفي كل جيل..
هذه طبيعة هذه الدعوة، وهذا طريقها.. إنها لا تريد أن تعتدي؛ ولكن تريد أن تقيم في الأرض منهجها القويم ونظامها السليم.. وهي واجدة أبدا من يكره ذلك المنهج وهذا النظام. ومن يقف في طريقها بالقوة والكيد. ومن يتربص بها الدوائر. ومن يحاربها باليد والقلب واللسان.. ولا بد لها أن تقبل المعركة بكل تكاليفها، ولا بد لها أن ترابط وتحرس ولا تغفل لحظة ولا تنام!!
والتقوى.. التقوى تصاحب هذا كله. فهي الحارس اليقظ في الضمير يحرسه أن يغفل؛ ويحرسه أن يضعف؛ ويحرسه أن يعتدي؛ ويحرسه أن يحيد عن الطريق من هنا ومن هناك.
ولا يدرك الحاجة إلى هذا الحارس اليقظ، إلا من يعاني مشاق هذا الطريق؛ ويعالج الانفعالات المتناقضة المتكاثرة المتواكبة في شتى الحالات وشتى اللحظات..
إنه الإيقاع الأخير في السورة التي حوت ذلك الحشد من الإيقاعات. وهو جماعها كلها، وجماع التكاليف التي تفرضها هذه الدعوة في عمومها.. ومن ثم يعلق الله بها عاقبة الشوط الطويل وينوط بها الفلاح في هذا المضمار:
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ختمت السورة بوصاية جامعة للمؤمنين تجدّد عزيمتهم وتبعث الهمم إلى دوام الاستعداد للعدوّ كي لا يثبّطهم ما حصل من الهزيمة، فأمَرَهم بالصبر الذي هو جماع الفضائل وخصال الكمال، ثم بالمصابرة وهي الصبر في وجه الصابر، وهذا أشدّ الصبر ثباتاً في النفس وأقربه إلى التزلزل، ذلك أنّ الصبر في وجه صابرٍ آخر شديد على نفس الصابر لما يلاقيه من مقاومة قِرن له في الصبر قد يساويه أو يفوقه، ثم إنّ هذا المصابر إن لم يثبت على صبره حتّى يملّ قرنه فإنّه لا يجتني من صبره شيئاً، لأنّ نتيجة الصبر تكون لأطول الصابرين صبراً،...
وقوله: {ورابطوا} أمر لهم بالمرابطة، وهي مفاعلة من الرّبْط، وهو ربط الخيل للحراسة في غير الجهاد خشية أن يفجأهم العدوّ، أمر الله به المسلمين ليكونوا دائماً على حذر من عدوّهم تنبيهاً لهم على ما يكيد به المشركون من مفاجأتهم على غِرّة بعد وقعة أُحُد كما قدّمناه آنفاً، وقد وقع ذلك منهم في وقعة الأحزاب فلمّا أمرهم الله بالجهاد أمرهم بأن يكونوا بعد ذلك أيقاظاً من عدوّهم...
وأعقب هذا الأمر بالأمر بالتقوى لأنّها جماع الخيرات وبها يرجى الفلاح.