الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{مَتَٰعٞ قَلِيلٞ ثُمَّ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ} (197)

" متاع قليل " أي تقلبهم متاع قليل . وقرأ يعقوب " يغرنك " ساكنة النون ، وأنشد :

لا يَغُرَّنَكَ عشاء ساكنٍ *** قد يوافي بالمَنِيَّاتِ السَّحَر

ونظير هذه الآية قوله تعالى : " فلا يغررك تقلبهم في البلاد " {[3824]} [ المؤمن : 4 ] . والمتاع : ما يعجل الانتفاع به ، وسماه قليلا لأنه فان ، وكل فان وإن كان كثيرا فهو قليل . وفي صحيح الترمذي عن المستورد الفهري قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم ، فلينظر بماذا يرجع ) . قيل : ( يرجع ) بالياء والتاء . " وبئس المهاد " أي بئس ما مهدوا لأنفسهم بكفرهم ، وما مهد الله لهم من النار .

الثامنة عشرة : في هذه الآية وأمثالها كقوله : " أنما نملي لهم خير " {[3825]} [ آل عمران : 178 ] الآية . " وأملي لهم إن كيدي متين " {[3826]} [ الأعراف : 183 ] . " أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين " {[3827]} [ المؤمنون : 55 ] . " سنستدرجهم من حيث لا يعلمون " {[3828]} [ الأعراف : 182 ] دليل على أن الكفار غير . منعم عليهم في الدنيا ؛ لأن حقيقة النعمة الخلوص من شوائب الضرر العاجلة والآجلة ، ونعم الكفار . مشوبة بالآلام والعقوبات ، فصار كمن قدم بين يدي غيره حلاوة من عسل فيها السم ، فهو وإن استلذ آكله لا يقال : أنعم عليه ؛ لأن فيه هلاك روحه . ذهب إلى هذا جماعة من العلماء ، وهو قول الشيخ أبي الحسن الأشعري . وذهب جماعة منهم سيف السنة ولسان الأمة القاضي أبو بكر : إلى أن الله أنعم عليهم في الدنيا . قالوا : وأصل النعمة من النعمة بفتح النون ، وهي لين العيش ، ومنه قوله تعالى : " ونعمة كانوا فيها فاكهين " {[3829]} [ الدخان : 27 ] . يقال : دقيق ناعم ، إذا بولغ في طحنه وأجيد سحقه . وهذا هو الصحيح ، والدليل عليه أن الله تعالى أوجب على الكفار أن يشكروه وعلى جميع المكلفين فقال : " فاذكروا آلاء الله " {[3830]} [ الأعراف : 74 ] . " واشكروا لله " {[3831]} [ البقرة : 172 ] والشكر لا يكون إلا على نعمة . وقال : " وأحسن كما أحسن الله إليك " {[3832]} [ القصص : 77 ] وهذا خطاب لقارون . وقال : " وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة " {[3833]} [ النحل : 112 ] الآية . فنبه سبحانه أنه قد أنعم عليهم نعمة دنياوية فجحدوها . وقال : " يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها " {[3834]} [ النحل : 83 ] وقال : " يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم " {[3835]} [ فاطر : 3 ] . وهذا عام في الكفار وغيرهم . فأما إذا قدم لغيره طعاما فيه سم فقد رفق به في الحال ؛ إذ لم يجرعه السم بحتا ، بل دسه في الحلاوة ، فلا يستبعد أن يقال : قد أنعم عليه ، وإذا ثبت هذا فالنعم ضربان : نعم نفع ونعم دفع ، فنعم النفع ما وصل إليهم من فنون اللذات ، ونعم الدفع ما صرف عنهم من أنواع الآفات . فعلى هذا قد أنعم على الكفار نعم الدفع قولا واحدا ، وهو ما زوي عنهم من الآلام والأسقام ، ولا خلاف بينهم في أنه لم ينعم عليهم نعمة دينه . والحمد لله .


[3824]:- راجع جـ15 ص 289.
[3825]:- راجع ص 286 من هذا الجزء.
[3826]:- راجع جـ7 ص 329 و ص 237.
[3827]:- راجع جـ12 ص 130.
[3828]:- راجع جـ7 ص 329 و ص 237.
[3829]:- راجع جـ16 ص 138.
[3830]:- راجع جـ7 ص 329 و ص 237.
[3831]:- راجع جـ2 ص 215.
[3832]:- راجع جـ13 ص 314.
[3833]:- راجع جـ10 ص 193. و ص 161.
[3834]:- راجع جـ10 ص 193. و ص 161.
[3835]:- راجع جـ 14 ص 321.