جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: اصبر يا محمد على ما يقول مشركو قومك لك مما تكره قيلهم لك، فإنا ممتحنوك بالمكاره امتحاننا سائر رسلنا قبلك، ثم جاعلو العلوّ والرفعة والظفر لك على من كذبك وشاقّك، سنتنا في الرسل الذين أرسلناهم إلى عبادنا قبلك؛ فمنهم عبدنا أيوب وداود...، فاذكره ذا الأيد، ويعني بقوله:"ذَا الأَيْدِ": ذا القوّة والبطش الشديد في ذات الله والصبر على طاعته... وقوله: "إنّهُ أوّابٌ": يقول: إن داود رَجّاع لما يكرهه الله إلى ما يرضيه أوّاب، وهو من قولهم: آب الرجل إلى أهله: إذا رجع... عن مجاهد "إنّهُ أوّابٌ": قال: الراجع عن الذنوب.
حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: "أنّهُ أوّابٌ": أي كان مطيعا لله كثير الصلاة.
حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ، قوله: "إنّهُ أوّابٌ": قال: المسبّح.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل قوله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم {واذكر عبدنا داوود} وجوها: أحدها: أن اذكر نبأ داوود ونبأ من ذكر في هذه السورة من الأنبياء عليه السلام، لم تكن لتعرف أنت ولا قومك من قبل هذا، لعلهم يصدقونك، ويؤمنون بك، كقوله عز وجل: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49].
والثالث: {واذكر عبدنا داوود} ومن ذكر من الأنبياء، أي أذكر لهم المصدقين وما يكون لهم من الكرامات والثواب كما ذكرت لهم المكذبين وما نزل من العذاب لعلهم يرجعون، ويصدقونك، ليعلموا من نجا منهم بم نجا؟ ومن هلك منهم بم هلك؟ أو ليعلموا أن في أوائلهم المصدقين له والمؤمنين، فكيف اتبعتهم المكذبين منهم دون المصدقين؟
جائز أن يكون قوله عز وجل {ذا الأيد} في أمر الله، في أمر الدين؛ لأنه ألان له الحديد حتى كان يتخذ منه الدرع وغيرها من الأسلحة، وسخر له الطير والجبال حتى كانت تسبح معه بالعشي والإشراق وحتى كان يستعمل ما اتخذ من الحديد في ما شاء من أمر الدين من المحاربة مع الأعداء والدرء عن أهل الإسلام والدفع عنهم.
وقال بعضهم: {أواب} أي مسبح لله، ذكر أنه كان كثير التسبيح، ولذلك قال عز وجل: {يا جبال أوبي معه} [سبأ: 10] أي سبحي...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
(واذكر عبدنا داود ذا الأيد) ترغيبا له في الصبر المأمور به، وإن لك يا محمد فيه من إحسان الله إليك على نحو إحسانه إلى داود قبلك، وأنه لو شاء لأعطاك في الدنيا مثل ما أعطى داود، ولكنه دبر لك ما هو أعود لك...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{ذَا الأَيْدِ}: ذا القوة، ولم تكن قُوَّتُه قوةَ نَفْسٍ، وإنما كانت قوته قوةَ فِعْلٍ؛ كان يصوم يوماً ويفطر يوماً- وهو أشدُّ الصوم، وكان قوياً في دين الله بِنَفْسِه وقلبه وهمته...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
اصبر على ما يقولون، وعظم أمر معصية الله في أعينهم بذكر قصة داود، وهو أنه نبيّ من أنبياء الله تعالى قد أولاه ما أولاه من النبوّة والملك، ولكرامته عليه وزلفته لديه، ثم زلّ زلّة فبعث إليه الملائكة ووبخه عليها. على طريق التمثيل والتعريض، حتى فطن لما وقع فيه فاستغفر وأناب...
أو قال له صلى الله عليه وسلم: اصبر على ما يقولون، وصن نفسك وحافظ عليها أن تزل فيما كلفت من مصابرتهم وتحمل أذاهم، واذكر أخاك داود وكرامته على الله كيف زلّ تلك الزلّة اليسيرة فلقي من توبيخ الله وتظليمه ونسبته إلى البغي ما لقي.
اعلم أن الكفار لما بالغوا في السفاهة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قالوا: إنه ساحر كذاب وقالوا له على سبيل الاستهزاء: {عجل لنا قطنا} أمره الله بالصبر على سفاهتهم، فقال: {اصبر على ما يقولون} فإن قيل: أي تعلق بين قوله: {اصبر على ما يقولون} وبين قوله: {واذكر عبدنا داوود}؟ قلنا بيان هذا التعلق من وجوه:
الثاني: كأنه قيل لمحمد صلى الله عليه وسلم لا يضيق صدرك بسبب إنكارهم لقولك ودينك، فإنهم إذا خالفوك فالأكابر، من الأنبياء وافقوك.
والثالث: أن للناس في قصة داود قولين: منهم من قال إنها تدل على ذنبه، ومنهم من قال إنها لا تدل عليه؛ فمن قال بالأول كان وجه المناسبة فيه كأنه قيل لمحمد صلى الله عليه وسلم إن حزنك ليس إلا، لأن الكفار يكذبونك، وأما حزن داود فكان بسبب وقوعه في ذلك الذنب ولا شك أن حزنه أشد، فتأمل في قصة داود وما كان فيه من الحزن العظيم حتى يخف عليك ما أنت فيه من الحزن، ومن قال بالثاني قال الخصمان اللذان دخلا على داود كانا من البشر، وإنما دخلا عليه لقصد قتله فخاف منهما داود، ومع ذلك لم يتعرض لإيذائهما ولا دعا عليهما بسوء بل استغفر لهما على ما سيجيئ تقرير هذه الطريقة فلا جرم أمر الله تعالى محمدا عليه السلام بأن يقتدي به في حسن الخلق.
والخامس: أن قريشا إنما كذبوا محمدا عليه السلام واستخفوا به لقولهم في أكثر الأمر إنه يتيم فقير، ثم إنه تعالى قص على محمد كمال مملكة داود، ثم بين أنه مع ذلك ما سلم من الأحزان والغموم، ليعلم أن الخلاص عن الحزن لا سبيل إليه في الدنيا.
والسادس: أن قوله تعالى: {اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داوود} غير مقتصر على داود فقط بل ذكر عقيب قصة داود قصص سائر الأنبياء فكأنه قال: {اصبر على ما يقولون} واعتبر بحال سائر الأنبياء؛ ليعلمه أن كل واحد منهم كان مشغولا بهم خاص وحزن خاص، فحينئذ يعلم أن الدنيا لا تنفك عن الهموم والأحزان، وأن استحقاق الدرجات العالية عند الله لا يحصل إلا بتحمل المشاق والمتاعب في الدنيا، وهذه وجوه ذكرناها في هذا المقام وههنا وجه آخر أقوى وأحسن من كل ما تقدم، وسيجيئ ذكره إن شاء الله تعالى عند الانتهاء إلى تفسير قوله: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته}.
واعلم أنه تعالى ذكر بعد ذلك حال تسعة من الأنبياء فذكر حال ثلاثة منهم على التفصيل وحال ستة آخرين على الإجمال. فالقصة الأولى: قصة داود؛ واعلم أن مجامع ما ذكره الله تعالى في هذه القصة ثلاثة أنواع من الكلام؛
فالأول: تفصيل ما آتى الله داود من الصفات التي توجب سعادة الآخرة والدنيا.
أما النوع الأول: وهو شرح الصفات التي آتاها الله داود من الصفات الموجبة لكمال السعادة فهي عشرة؛
الأول: قوله لمحمد صلى الله عليه وسلم: {اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داوود} فأمر محمدا صلى الله عليه وسلم على جلالة قدره بأن يقتدي في الصبر على طاعة الله بداود وذلك تشريف عظيم وإكرام لداود حيث أمر الله أفضل الخلق محمدا صلى الله عليه وسلم بأن يقتدي به في مكارم الأخلاق.
والثاني: أنه قال في حقه: {عبدنا داوود} فوصفه بكونه عبدا له وعبر عن نفسه بصيغة الجمع الدالة على نهاية التعظيم، وذلك غاية التشريف، فإن وصف الله تعالى الأنبياء بعبوديته مشعر بأنهم قد حققوا معنى العبودية بسبب الاجتهاد في الطاعة.
والثالث: قوله: {ذا الأيد} أي ذا القوة على أداء الطاعة والاحتراز عن المعاصي، وذلك لأنه تعالى لما مدحه بالقوة وجب أن تكون تلك القوة موجبة للمدح، والقوة التي توجب المدح العظيم ليست إلا القوة على فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه
{والأيد} المذكور ههنا كالقوة المذكورة في قوله: {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} أي باجتهاد في أداء الأمانة وتشدد في القيام بالدعوة وترك إظهار الوهن والضعف والأيد والقوة سواء ومنه قوله تعالى: {هو الذي أيدك بنصره}.
الرابع: قوله: {إنه أواب} أي أن داود كان رجاعا في أموره كلها إلى طاعتي والأواب فعال من آب إذا رجع كما قال تعالى: {إن إلينا إيابهم} وفعال بناء المبالغة كما يقال قتال وضراب.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
الأيد: القوة في العلم والعمل...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
بدأ من أهل الشرف بمن كان أول أمره مثل أول أمر هذا النبي الكريم في استضعاف قومه له وآخر أمره ملكاً ثابت الأركان مهيب السلطان، ليكون حاله مثلاً له فيحصل به تمام التسلية: {اصبر} وأشار بحرف الاستعلاء إلى عظيم الصبر فقال:
{على ما} وزاد في الحث عليه بالمضارع فقال: {يقولون} أي يجددون قوله في كل حين من الأقوال المنكية الموجعة المبكية، فإنه ليس لنقص فيك، ولكنه لحكم تجل عن الوصف، مدارها زيادة شرفك ورفعة درجاتك، وصرف الكلام إلى مقام العظمة لاقتضاء ما يذكر من التسخير لذلك: {واذكر عبدنا} أي الذي أخلصناه لنا وأخلص نفسه للنظر إلى عظمتنا والقيام في خدمتنا، وأبدل منه أو بينه بقوله:
ولما كان أعظم الجهاد الإنقاذ من حفائر الهفوات وأوامر الشهوات، بالإصعاد في مدارج الكمالات، ومعارج الإقبال، وكان ذلك لا يكاد يوجد في الآدميين لما حفوا به من الشهوات وركز في طباعهم من الغفلات، علل قوته بقوله مؤكداً: {إنه أواب} أي رجاع إلى الله تعالى ليصير إلى ما خلقه عليه من أحسن تقويم بالعقل المحض أطلق العلو درجة درجة على الرجوع؛ لأن ذلك دون الرتبة التي تكون نهاية عند الموت، فكان المقضي له بها أنزل نفسه عنها، ثم صار يرجع إليها كل لحظة بما يكابد من المجاهدات والمنازلات والمحاولات حتى وصل إليها بعد التجرد عن الهوى كله...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(اصبر).. إنها الإشارة إلى الطريق المطروق في حياة الرسل -عليهم صلوات الله- الطريق الذي يضمهم أجمعين، فكلهم سار في هذا الطريق كلهم عانى وكلهم ابتلي وكلهم صبر. وكان الصبر هو زادهم جميعاً وطابعهم جميعاً. كل حسب درجته في سلم الأنبياء.. لقد كانت حياتهم كلها تجربة مفعمة بالابتلاءات؛ مفعمة بالآلام؛ وحتى السراء كانت ابتلاء وكانت محكاً للصبر على النعماء بعد الصبر على الضراء. وكلتاهما في حاجة إلى الصبر والاحتمال.. ونستعرض حياة الرسل جميعاً -كما قصها علينا القرآن الكريم- فنرى الصبر كان قوامها، وكان العنصر البارز فيها. ونرى الابتلاء والامتحان كان مادتها وماءها.. لكأنما كانت تلك الحياة المختارة -بل إنها لكذلك- صفحات من الابتلاء والصبر معروضة للبشرية، لتسجل كيف تنتصر الروح الإنسانية على الآلام والضرورات؛ وكيف تستعلي على كل ما تعتز به في الأرض؛ وتتجرد من الشهوات والمغريات؛ وتخلص لله وتنجح في امتحانه، وتختاره على كل شيء سواه.. ثم لتقول للبشرية في النهاية: هذا هو الطريق. هذا هو الطريق إلى الاستعلاء، وإلى الارتفاع هذا هو الطريق إلى الله...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{واذكر عبدنا داوودَ}...،يجوز أن يكون عطفاً على مجموع ما تقدّم عطْفَ القصة على القصة والغرض هو هو. وأدمج في خلال ذلك الإِيماء إلى التحذير من الضجر في ذات الله تعالى واتقاءِ مراعاة حظوظ النفس في سياسة الأمة إبعاداً لرسوله صلى الله عليه وسلم عن مهاوي الخطأ والزلَل وتأديباً له في أول أمره وآخره مما أن يتلقى بالعَذَل...
{واذكر عبدنا داوود} هو الذكر بضم الذال وهو التذكرُّ وليس هو ذِكر اللسان؛ لأنه إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك لتسليته وحفظ كماله، لا لِيُعْلمه المشركين ولا لِيُعْلِمه المسلمين على أن كِلا الأمرين حاصل تبعاً حين إبلاغ المنزَّل في شأن داود إليهم وقراءته عليهم، ومعنى الأمر بتذكر ذلك تذكر ما سبق إعلام النبي صلى الله عليه وسلم به من فضائله وتذكير ما عسى أن يكون لم يعلمه مما يعلم به في هذه الآية.
وكان داود قد أعطي قوة نادرة وشجاعة وإقداماً عجيبين وكان يرمي الحجر بالمقلاع فلا يخطئ الرميَّة، وكان يلوي الحديد ليصنعه سرداً للدروع بأصابعه، وهذه القوة محمودة لأنه استعملها في نصر دين التوحيد...
الصبر: استعلاء النفس على الأحداث بمعنى ألاَّ تنال الأحداثُ من النفس ومن قوتها، لأن الذي يُصاب بمصيبة يحتاج إلى قوة إضافية فوق قوته الطبيعية، فلا تجعل المصيبة أو الشدة تُضعف من قوتك على تحمُّل الحدث.
وإياك أنْ تجعل المصيبة مصيبتين، حين تضعف أمام الأحداث فيجتمع عليك المصيبة والضعف عن تحملها...
هنا الحق سبحانه يريد أنْ يُسلِّي نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ويُخفِّف عنه ما يلاقي من قومه، فقولهم عن رسول الله أنه ساحر وكاذب ومجنون.. إلخ كل هذا يُحزن رسول الله ويشقُّ عليه ويُؤلمه؛ لذلك مرَّتْ بنا آياتٌ كثيرة في تسليته صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَـٰكِنَّ الظَّٰلِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33].
وهنا يخاطبه ربه: {اصْبِر عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ} ثم يعطيه مثلاً من موكب الرسالات السابقة {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ} لكن لماذا ذكر سيدنا داود بالذات في هذا المقام؟
قالوا: لأن قومَ سيدنا داود قالوا في حقه ما هو أفظع مما قيل في حَقِّ رسول الله، فكفار مكة قالوا: ساحر، وكاهن، وكذاب. أما قوم داود فقد اتهموه في شرفه وعفَّته وطهارته، حين زعموا أنه بعث بأحد قادته إلى حرب خارج البلاد؛ لأنه كان يحب زوجته، ويريد أنْ يخلوَ له الجو وينفرد بها، ومع ذلك صبر سيدنا داود.
والحق سبحانه يخاطب نبيه محمداً ويقول له: اصبر كما صبر داود. مع أن محمداً هو خاتم الرسل جميعاً، فلا رسالةَ بعده وفوَّضَه الله في أنْ يُشرِّع لأمته، وهذه خصوصية لم تسبق لأحد غيره من الرسل، وأرسل الله معه كتاباً خالداً مهيمناً على كل الكتب السابقة ومع ذلك يقول له ربه: اصبر كما صبر داود، وكما صبر إخوانك من الرسل ليدلَّ على أن أمة الرسالة أمة واحدة، كل منهم يُبلِّغ عن الله رسالة مناسبة لقومه، فالرسل جميعاً كشخص واحد.
لذلك قال تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ} وبعد ذلك ذكر عدةَ رسُل من موكب الرسالات ولم يقُلْ عبادنا، كأنهم تجمعوا كلهم في مهمة واحدة فلا تفرق بينهم؛ لذلك يقول سبحانه: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَالَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ..} [الشورى: 13].
وقال صلى الله عليه وسلم:"لا تفضلوني على يونس بن متى".
لأنكم لا تعلمون مقاييس المفاضلة، فدعوا المفاضلة لله تعالى فهو الذي يُفضِّل، كما قال سبحانه: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُمْ..} [البقرة: 253].
وتأمَّل هذا الشرف الكبير الذي ناله سيدنا داود حين تحدَّث الحق عنه، فقال {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ} كذلك نال سيدنا محمد في استهلاك سورة الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] فليس للإسراء حيثية، إلا أنه صلى الله عليه وسلم عبد أخلص العبودية لله فاستحق هذا الشرف العظيم؛ لذلك لما جَفتْ به الطائف واضطهدوه وشتموه جاء العزاء من الله، فإنْ كانت الأرضُ لم تحتَفِ بك، فسوف تحتفي بك السماء.
وقوله تعالى: {ذَا الأَيْدِ} يعني: صاحب القوة في العبادة، والإيمان يحتاج فعلاً إلى قوة تُعينك على الطاعة، وتزجرك عن المعصية، وتكبح جماحَ النفس حين تميل بك إلى المخالفة، أما الطاعة فتحتاج إلى قوة لأن الطاعةَ غالباً ما تكون ثقيلة على النفس، فتحتاج إلى قوة دافعة حافزة؛ لذلك يقول تعالى عنها: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَٰشِعِينَ} [البقرة: 45].
أما المعصية فلها لذة وجاذبية وشهوات تُلِح على النفس، فتحتاج كذلك إلى عزيمة وقوة رادعة كابحة؛ لذلك كثيراً ما يتكرر ذِكْر القوة في كتاب الله، فقال عن داود {ذَا الأَيْدِ}، وقال ليحيى عليه السلام: {يٰيَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12].
فالمؤمن لا بُدَّ أنْ يكون قوياً، قويَّ الإرادة والعزم، لا بُدَّ له من قوة الدفع إلى الطاعات لأنه يكسل عنها، وقوة الردع عن المعاصي لأنه يميلُ إليها، والإنسان لا يكسل عن الطاعة ولا يرغب في المعصية إلا حين يعزل العملَ عن الجزاء والعاقبة، ولو استحضر الجزاء وتذكَّر العاقبة لَهانت عليه الطاعة وخَفَّتْ على نفسه وسَهُلَتْ، ولَزِهدَ في المعصية، وفَرَّ منها فراره من الأسد...
ثم يقول تعالى في وصف سيدنا داود: {إِنَّهُ أَوَّابٌ} من الفعل آب آيب وأوَّاب صيغة مبالغة على وزن فعَّال. يعني: كثير التوبة والأوْب إلى الله، وهذه الكلمة فيها إشارة إلى أن الإنسانَ عُرْضة للمعصية، وأنه مهما تاب فهو مُعرَّض للعودة مرة أخرى؛ لأنه ليس معصوماً، المهم أنْ تحدثَ لكل ذنب توبةٌ، وألاَّ تكون مُصِراً على أن تعودَ...
وقوله تعالى في حَقِّ سيدنا داود: {إِنَّهُ أَوَّابٌ} تشرح لنا فيما بَعْد معنى
{وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} [ص: 24].
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
«الأيد» بمعنى القدرة، وتأتي أيضاً بمعنى النعمة. وقد توفّر المعنيان المذكوران أعلاه في داود.