مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{ٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱذۡكُرۡ عَبۡدَنَا دَاوُۥدَ ذَا ٱلۡأَيۡدِۖ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٌ} (17)

واعلم أن الكفار لما بالغوا في السفاهة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قالوا : إنه ساحر كذاب وقالوا له على سبيل الاستهزاء : { عجل لنا قطنا } أمره الله بالصبر على سفاهتهم ، فقال : { اصبر على ما يقولون } فإن قيل . أي تعلق بين قوله : { اصبر على ما يقولون } وبين قوله : { واذكر عبدنا داوود } ؟ قلنا بيان هذا التعلق من وجوه الأول : كأنه قيل إن كنت قد شاهدت من هؤلاء الجهال جراءتهم على الله وإنكارهم الحشر والنشر ، فاذكر قصة داود حتى تعرف شدة خوفه من الله تعالى ومن يوم الحشر ، فإن بقدر ما يزداد أحد الضدين شرفا يزداد الضد الآخر نقصانا والثاني : كأنه قيل لمحمد صلى الله عليه وسلم لا يضيق صدرك بسبب إنكارهم لقولك ودينك ، فإنهم إذا خالفوك فالأكابر ، من الأنبياء وافقوك والثالث : أن للناس في قصة داود قولين : منهم من قال إنها تدل على ذنبه ، ومنهم من قال إنها لا تدل عليه فمن قال بالأول كان وجه المناسبة فيه كأنه قيل لمحمد صلى الله عليه وسلم إن حزنك ليس إلا ، لأن الكفار يكذبونك ، وأما حزن داود فكان بسبب وقوعه في ذلك الذنب ولا شك أن حزنه أشد ، فتأمل في قصة داود وما كان فيه من الحزن العظيم حتى يخف عليك ما أنت فيه من الحزن ومن قال بالثاني قال الخصمان اللذان دخلا على داود كانا من البشر ، وإنما دخلا عليه لقصد قتله فخاف منهما داود ، ومع ذلك لم يتعرض لإيذائهما ولا دعا عليهما بسوء بل استغفر لهما على ما سيجيء تقرير هذه الطريقة فلا جرم أمر الله تعالى محمدا عليه السلام بأن يقتدي به في حسن الخلق والخامس : أن قريشا إنما كذبوا محمدا عليه السلام واستخفوا به لقولهم في أكثر الأمر إنه يتيم فقير ، ثم إنه تعالى قص على محمد كمال مملكة داود ، ثم بين أنه مع ذلك ما سلم من الأحزان والغموم ، ليعلم أن الخلاص عن الحزن لا سبيل إليه في الدنيا والسادس : أن قوله تعالى : { اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داوود } غير مقتصر على داود فقط بل ذكر عقيب قصة داود قصص سائر الأنبياء فكأنه قال : { اصبر على ما يقولون } واعتبر بحال سائر الأنبياء ليعلمه أن كل واحد منهم كان مشغولا بهم خاص وحزن خاص ، فحينئذ يعلم أن الدنيا لا تنفك عن الهموم والأحزان ، وأن استحقاق الدرجات العالية عند الله لا يحصل إلا بتحمل المشاق والمتاعب في الدنيا ، وهذه وجوه ذكرناها في هذا المقام وههنا وجه آخر أقوى وأحسن من كل ما تقدم ، وسيجيء ذكره إن شاء الله تعالى عند الانتهاء إلى تفسير قوله :

{ كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته } واعلم أنه تعالى ذكر بعد ذلك حال تسعة من الأنبياء فذكر حال ثلاثة منهم على التفصيل وحال ستة آخرين على الإجمال .

فالقصة الأولى : قصة داود ، واعلم أن مجامع ما ذكره الله تعالى في هذه القصة ثلاثة أنواع من الكلام فالأول : تفصيل ما آتى الله داود من الصفات التي توجب سعادة الآخرة والدنيا والثاني : شرح تلك الواقعة التي وقعت له من أمر الخصمين والثالث : استخلاف الله تعالى إياه بعد وقوع تلك الواقعة أما النوع الأول : وهو شرح الصفات التي آتاها الله داود من الصفات الموجبة لكمال السعادة فهي عشرة الأول : قوله لمحمد صلى الله عليه وسلم : { اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داوود } فأمر محمدا صلى الله عليه وسلم على جلالة قدره بأن يقتدي في الصبر على طاعة الله بداود وذلك تشريف عظيم وإكرام لداود حيث أمر الله أفضل الخلق محمدا صلى الله عليه وسلم بأن يقتدي به في مكارم الأخلاق والثاني : أنه قال في حقه : { عبدنا داوود } فوصفه بكونه عبدا له وعبر عن نفسه بصيغة الجمع الدالة على نهاية التعظيم ، وذلك غاية التشريف ، ألا ترى أنه سبحانه وتعالى لما أراد أن يشرف محمدا عليه السلام ليلة المعراج قال : { سبحان الذي أسرى بعبده } فههنا يدل على ذلك التشريف لداود فكان ذلك دليلا على علو درجته أيضا ، فإن وصف الله تعالى الأنبياء بعبوديته مشعر بأنهم قد حققوا معنى العبودية بسبب الاجتهاد في الطاعة والثالث : قوله : { ذا الأيد } أي ذا القوة على أداء الطاعة والاحتراز عن المعاصي ، وذلك لأنه تعالى لما مدحه بالقوة وجب أن تكون تلك القوة موجبة للمدح ، والقوة التي توجب المدح العظيم ليست إلا القوة على فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه { والأيد } المذكور ههنا كالقوة المذكورة في قوله :

{ يا يحيى خذ الكتاب بقوة } وقوله تعالى : { وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة } أي باجتهاد في أداء الأمانة وتشدد في القيام بالدعوة وترك إظهار الوهن والضعف والأيد والقوة سواء ومنه قوله تعالى : { هو الذي أيدك بنصره } وقوله تعالى : { وأيدناه بروح القدس } وقال : { والسماء بنيناها بأيد } وعن قتادة أعطى قوة في العبادة وفقها في الدين ، وكان يقوم الليل ويصوم نصف الدهر الرابع : قوله : { إنه أواب } أي أن داود كان رجاعا في أموره كلها إلى طاعتي والأواب فعال من آب إذا رجع كما قال تعالى : { إن إلينا إيابهم } وفعال بناء المبالغة كما يقال قتال وضراب فإنه أبلغ من قاتل وضارب