استئناف ابتدائي عاد به الكلام إلى الاستدلال على إمكان البعث وهو ما ابتُدىء به فارتبط بقوله : { أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه } [ القيامة : 3 ] فكأنه قيل : أيحسب أن لن نجمع عظامه ويحسبُ أن نتركه في حالة العدم .
وزيد هنا أن مقتضى الحكمة الإلهية إيقاعُه بقوله : { أن يُترك سُدى } كما ستعلمه .
والاستفهام إنكاري مثل الذي سبقه في قوله تعالى : { أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه } [ القيامة : 3 ] .
وأصل معنى الترك : مفارقة شيء شيئاً اختياراً من التَّارك ، ويطلق مجازاً على إهمال أحد شيئاً وعدم عنايته بأحواله وبتعهده ، وهو هنا مستعمل في المعنى المجازي .
والمراد بما يترك عليه الإِنسان هنا ما يدل عليه السياق ، أي حالَ العدم دون إحياء مما دل عليه قوله تعالى : { أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه } [ القيامة : 3 ] وقوله : { يُنَبَّأُ الإِنسان يومئذٍ بما قدَّم وأخر } [ القيامة : 13 ] .
وعُدل عن بناء فعل يَترك للفاعل فبني للنائب إيجازاً لأجل العلم بالفاعل من قوله السابق : { أن لن نجمع عظامه فكأنه قال : أيحسب الإِنسان أن نتركه دون بعث وأن نهمل أعماله سدى .
فجاء ذِكر { سُدى } هنا على طريقة الإِدماج فيما سيق له الكلام ، إيماء إلى أن مقتضى حكمة خلق الإِنسان أن لا يتركه خالقه بعد الموت فلا يحييه ليجازِيه على ما عَمِله في حياته الأولى .
وفي إعادة { أيحسب الإنسان } تهيئة لما سيعقب من دليل إمكان البعث من جانب المادة بقوله : { ألم يك نطفة } [ القيامة : 37 ] إلى آخر السورة .
فقوله : { أيحسب الإِنسان أن يترك سدى } تكرير وتعداد للإِنكار على الكافرين تكذيبهم بالعبث ، ألا ترى أنه وقع بعد وصف يوم القيامة وما فيه من الحساب على ما قدّم الإِنسان وأخّر .
ومعنى هذا مثل قوله تعالى : { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون } [ المؤمنون : 115 ] .
و { سُدى } بضم السين وبالقصر : اسم بمعنى المهمل ويقال : سَدى بفتح السِّين والضمُّ أكثر وهو اسم يستوي فيه المفرد والجمع يقال : إبل سُدًى ، وجمل سُدًى ويشتق منه فعل فيقال : أسْدى إبله وأسديت إِبلي ، وألفه منقلبة عن الواو .
ولم يفسر صاحب « الكشاف » هذه الكلمة وكذلك الراغب في المفردات ووقع { سُدى } في موضع الحال من ضمير { يُترك } .
فإن الذي خلق الإِنسان في أحسن تقويم وأبدَعَ تركيبه ووهبه القوى العقلية التي لم يعطها غيره من أنواع الحيوان لِيستعملها في منافعَ لا تنحصر أو في ضد ذلك مِن مفاسد جسيمة ، لا يليق بحكمته أن يهمله مثل الحيوان فيجعل الصالحين كالمفسدين والطائعين لربهم كالمجرمين ، وهو العليم القدير المتمكن بحكمته وقدرته أن يجعل إليهِ المصير ، فلو أهمله لفاز أهل الفساد في عالم الكساد ، ولم يلاق الصالحون من صلاحهم إلاّ الأَنكاد ، ولا يناسب حكمة الحكيم إهمال الناس يَهِيمُون في كل وادي ، وتركُهم مَضرباً لقولِ المثل « فإنّ الريح للعادِي » .
ولذلك قال في جانب الاستدلال على وقوع البعث { أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه } [ القيامة : 3 ] ، أي لا نعيد خلقه ونبعثَه للجزاء كما أبلغناهم ، وجاء في جانب حكمته بما يشابه الأسلوب السابق فقال : { أيحسب الإِنسان أن يُترك سُدى } مع زيادة فائدة بما دلت عليه جملة { أن يترك سدى } ، أي لا يحسب أنه يترك غير مَرعِيّ بالتكليف كما تُترك الإِبل ، وذلك يقتضي المجازاةَ . وعن الشافعي : لم يختلف أهل العلم بالقرآن فيما علمتُ أن السُّدَى الذي لا يؤمر ولا ينهى اه . وقد تبين من هذا أن قوله : { أن يترك سدى } كناية عن الجزاء لأن التكليف في الحياة الدنيا مقصود منه الجزاء في الآخرة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.