الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{أَيَحۡسَبُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَن يُتۡرَكَ سُدًى} (36)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

يعني مهملا لا يحاسب بعمله، يعني أبا جهل إلى آخر السورة.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: أيظنّ هذا الإنسان الكافر بالله أن يترك هملاً، أن لا يؤمر ولا ينهى، ولا يتعبد بعبادة.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

ثم قال على وجه الوعيد والتهديد للكفار (أيحسب الانسان) ومعناه أيظن الإنسان الكافر بالبعث والنشور الجاحد لنعم الله (أن يترك سدى) ومعناه: أن يترك مهملا عن الأمر والنهي، فالسدى همل من غير أمر يؤخذ به، ويكون فيه تقويم له، وإصلاح لما هو أعود عليه في عاقبة أمره وأجمل به في دنياه وآخرته.

معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :

وقال السدي: معناه المهمل، وإبل سدى: إذا كانت ترعى حيث شاءت بلا راع.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

أي مهملا لا يؤمر، ولا ينهى، ولا يكلف في الدنيا ولا يحاسب بعمله في الآخرة، والسدى في اللغة المهمل يقال: أسديت إبلي إسداء أهملتها.

واعلم أنه تعالى لما ذكر في أول السورة، قوله: {أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه} أعاد في آخر السورة ذلك، وذكر في صحة البعث والقيامة دليلين؛

(الأول): قوله: {أيحسب الإنسان أن يترك سدى} ونظيره قوله: {إن الساعة ءاتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى} وقوله: {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار} وتقريره أن إعطاء القدرة والآلة والعقل بدون التكليف والأمر بالطاعة والنهي عن المفاسد يقتضي كونه تعالى راضيا بقبائح الأفعال، وذلك لا يليق بحكمته، فإذا لا بد من التكليف والتكليف لا يحسن ولا يليق بالكريم الرحيم إلا إذا كان هناك دار الثواب والبعث والقيامة.

الدليل الثاني: على صحة القول بالحشر الاستدلال بالخلقة الأولى على الإعادة، وهو المراد من قوله تعالى: {ألم يك نطفة من مني يمنى}.

التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :

تفسير قول الله تعالى ذكره: {أيحسب الإنسان أن يترك سدى}. قال الشافعي رضي الله عنه: أي مهملا لا يؤمر ولا ينهى؟ وقال غيره: لا يثاب ولا يعاقب. والقولان واحد. لأن الثواب والعقاب غاية الأمر والنهى. فهو سبحانه خلقهم للأمر والنهى في الدنيا. والثواب والعقاب في الآخرة. فأنكر سبحانه على من زعم أنه يترك سدى إنكار من جعل في العقل استقباح ذلك واستهجانه. وأنه لا يليق أن ينسب ذلك إلى أحكم الحاكمين.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وفي النهاية يمس القلوب بحقيقة أخرى واقعية في حياتهم، لها دلالتها على تدبير الله وتقديره لحياة الإنسان. ولها دلالتها كذلك على النشأة الآخرة التي ينكرونها أشد الإنكار. ولا مفر من مواجهتها، ولا حيلة في دفع دلالتها:

(أيحسب الإنسان أن يترك سدى؟ ألم يك نطفة من مني يمنى؟ ثم كان علقة فخلق فسوى؟ فجعل منه الزوجين: الذكر والأنثى؟ أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى؟)..

وهذا المقطع الأخير العميق الإيقاع، يشتمل على لفتات عميقة إلى حقائق كبيرة. ما كان المخاطبون بهذا القرآن يخطرونها على بالهم في ذلك الزمان. وأولى هذه اللفتات تلك اللفتة إلى التقدير والتدبير في حياة الإنسان:

(أيحسب الإنسان أن يترك سدى)..

فلقد كانت الحياة في نظر القوم حركة لا علة لها ولا هدف ولا غاية.. أرحام تدفع وقبور تبلع.. وبين هاتين لهو ولعب، وزينة وتفاخر، ومتاع قريب من متاع الحيوان.. فأما أن يكون هناك ناموس، وراءه هدف، ووراء الهدف حكمة؛ وأن يكون قدوم الإنسان إلى هذه الحياة وفق قدر يجري إلى غاية مقدرة، وأن ينتهي إلى حساب وجزاء، وأن تكون رحلته على هذه الأرض ابتلاء ينتهي إلى الحساب والجزاء.. أما هذا التصور الدقيق المتناسق، والشعور بما وراءه من ألوهية قادرة مدبرة حكيمة، تفعل كل شيء بقدر، وتنهي كل شيء إلى نهاية.. أما هذا فكان أبعد شيء عن تصور الناس ومداركهم، في ذلك الزمان.

والذي يميز الإنسان عن الحيوان، هو شعوره باتصال الزمان والأحداث والغايات. وبوجود الهدف والغاية من وجوده الإنساني، ومن الوجود كله من حوله. وارتقاؤه في سلم الإنسانية يتبع نمو شعوره هذا وسعته، ودقة تصوره لوجود الناموس، وارتباط الأحداث والأشياء بهذا الناموس. فلا يعيش عمره لحظة لحظة، ولا حادثة حادثة، بل يرتبط في تصوره الزمان والمكان والماضي والحاضر والمستقبل. ثم يرتبط هذا كله بالوجود الكبير ونواميسه. ثم يرتبط هذا كله بإرادة عليا خالقة مدبرة لا تخلق الناس عبثا ولا تتركهم سدى.

وهذا هو التصور الكبير الذي نقل القرآن الناس إليه منذ ذلك العهد البعيد، نقلة هائلة بالقياس إلى التصورات السائدة إذ ذاك وما تزال هائلة بالقياس إلى سائر التصورات الكونية التي عرفتها الفلسفة قديما وحديثا.

وهذه اللمسة: (أيحسب الإنسان أن يترك سدى).. هي إحدى لمسات القرآن التوجيهية للقلب البشري، كي يتلفت ويستحضر الروابط والصلات، والأهداف والغايات، والعلل والأسباب، التي تربط وجوده بالوجود كله، وبالإرادة المدبرة للوجود كله.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

فإن الذي خلق الإِنسان في أحسن تقويم وأبدَعَ تركيبه ووهبه القوى العقلية التي لم يعطها غيره من أنواع الحيوان لِيستعملها في منافعَ لا تنحصر أو في ضد ذلك مِن مفاسد جسيمة، لا يليق بحكمته أن يهمله مثل الحيوان فيجعل الصالحين كالمفسدين والطائعين لربهم كالمجرمين، وهو العليم القدير المتمكن بحكمته وقدرته أن يجعل إليهِ المصير، فلو أهمله لفاز أهل الفساد في عالم الكساد، ولم يلاق الصالحون من صلاحهم إلاّ الأَنكاد، ولا يناسب حكمة الحكيم إهمال الناس يَهِيمُون في كل وادي، وتركُهم مَضرباً لقولِ المثل « فإنّ الريح للعادِي».

ولذلك قال في جانب الاستدلال على وقوع البعث {أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه} [القيامة: 3]، أي لا نعيد خلقه ونبعثَه للجزاء كما أبلغناهم، وجاء في جانب حكمته بما يشابه الأسلوب السابق فقال: {أيحسب الإِنسان أن يُترك سُدى} مع زيادة فائدة بما دلت عليه جملة {أن يترك سدى}، أي لا يحسب أنه يترك غير مَرعِيّ بالتكليف كما تُترك الإِبل، وذلك يقتضي المجازاةَ. وعن الشافعي: لم يختلف أهل العلم بالقرآن فيما علمتُ أن السُّدَى الذي لا يؤمر ولا ينهى اه. وقد تبين من هذا أن قوله: {أن يترك سدى} كناية عن الجزاء لأن التكليف في الحياة الدنيا مقصود منه الجزاء في الآخرة.