قوله تعالى : { قالت } لهم بلقيس : { يا أيها الملأ } وهم أشراف الناس وكبراؤهم { إني ألقي إلي كتاب كريم } قال عطاء والضحاك : سمته كريماً لأنه كان مختوماً . وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كرامة الكتاب ختمه " وقال قتادة ومقاتل : كتاب كريم أي : حسن ، وهو اختيار الزجاج ، وقال : حسن ما فيه ، وروي عن ابن عباس : كريم ، أي : شريف لشرف صاحبه ، وقيل : سمته كريماً لأنه كان مصدراً ببسم الله الرحمن الرحيم .
ثم قالت لهم : { يَا أَيُّهَا الْمَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ } تعني بكرمه : ما رأته من عجيب أمره ، كون طائر أتى به{[22026]} فألقاه إليها ، ثم تولى عنها أدبًا . وهذا أمر لا يقدر عليه أحد من الملوك ، ولا سبيل لهم إلى ذلك ، ثم قرأته عليهم .
في هذا الموضع اختصار لما يدل ظاهر القول عليه تقديره فألقى الكتاب وقرأته وجمعت له أهل ملكها ، و { الملأ } أشراف الناس الذين ينوبون مناب الجميع ، ووصفت «الكتاب بالكرم » إما لأنه من عند عظيم في نفسها ونفوسهم فعظمته إجلالاً لسليمان ، وهذا قول ابن زيد ، وإما أنها أشارت إلى أنه مطبوع عليه بالخاتم ، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «كرم الكتاب ختمه »{[9016]} وإما أنها أرادت أنه بدىء { بسم الله } ف { كريم } ضد أجْذم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل كلام لم يبدأ باسم الله تعالى فهو أجذم »{[9017]} .
طويت أخبار كثيرة دل عليها ما بين الخبرين المذكورين من اقتضاء عدة أحداث ، إذ التقدير : فذهب الهدهد إلى سبأ فرمى بالكتاب فأبلغ الكتاب إلى الملكة وهي في مجلس ملكها فقرأته ، قالت : يأيها الملأ إلخ .
وجملة : { قالت } مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن غرابة قصة إلقاء الكتاب إليها يثير سؤالاً عن شأنها حين بلَغها الكتاب .
و { الملأ } : الجماعة من أشراف القوم وهم أهل مجلسها . وظاهر قولها : { ألقي إليّ } أن الكتاب سُلّم إليها دون حُضور أهل مجلسها . وتقدم غير مرة وذلك أن يكون نظام بَلاطها أن تسلم الرسائل إليها رأساً . والإلقاء تقدم آنفاً .
ووصف الكتاب بالكريم ينصرف إلى نفاسته في جنسه كما تقدم عند قوله تعالى : { لهم مغفِرَة ورزق كريم } في سورة الأنفال ( 74 ) ؛ بأن كان نفيسَ الصحيفة نفيسَ التخطيط بهيجَ الشكل مستوفياً كل ما جرت عادة أمثالهم بالتأنق فيه . ومن ذلك أن يكون مختوماً ، وقد قيل : كرم الكتاب ختمه ، ليكون ما في ضمنه خاصاً باطلاع من أُرسل إليه وهو يُطلع عليه من يشاء ويكتمه عمن يشاء . قال ابن العربي : « الوصف بالكرم في الكتاب غاية الوصف ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى : { إنه لقرآن كريم } [ الواقعة : 77 ] وأهل الزمان يصفون الكِتاب بالخَطير ، والأثير ، والمبرور ، فإن كان لملك قالوا : العزيز ، وأسقطوا الكريم غفلة وهو أفضلها خصلة » .
وأما ما يشتمل عليه الكتاب من المعاني فلم يكن محموداً عندها لأنها قالت : { إن الملوك إذا دَخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة } [ النمل : 34 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
فقرأت هي الكتاب، وكانت عربية من قوم تبع بن أبي شراحيل الحميري، وقومها من قوم تبع، وهم عرب فأخبرتهم بما في الكتاب، ولم يكن فيه شيء غير:"أنه من سليمان، وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي" ألا تعظموا علي "وأتوني مسلمين "قال أبو صالح: ويقال: مختوم. ف {قالت} المرأة لهم: {يا أيها الملؤا} يعنى الأشراف، {إني ألقي إلي كتاب كريم}، يعني: كتاب حسن.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فذهب الهدهد بكتاب سليمان إليها، فألقاه إليها فلما قرأته قالت لقومها:"يا أيّها المَلأُ إنّي أُلْقِيَ إليّ كِتابٌ كَرِيمٌ"...
وقوله: "قالَتْ يا أيّها المَلأُ إنّي أُلْقِيَ إليّ كِتابٌ كَرِيمٌ "والملأ: أشراف قومها. يقول تعالى ذكره: قالت ملكة سبأ لأشراف قومها: "يا أيّها المَلأُ إنّي ألْقِيَ إليّ كِتابٌ كَرِيمٌ".
واختلف أهل العلم في سبب وصفها الكتاب بالكريم؛ فقال بعضهم: وصفته بذلك لأنه كان مختوما.
وقال آخرون: وصفته بذلك لأنه كان من ملك فوصفته بالكرم لكرم صاحبه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{كَرِيمٌ} حسن مضمونه وما فيه، أو وصفته بالكرم، لأنه من عند ملك كريم أو مختوم.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
تعني بكرمه: ما رأته من عجيب أمره، كون طائر أتى به فألقاه إليها، ثم تولى عنها أدبًا. وهذا أمر لا يقدر عليه أحد من الملوك، ولا سبيل لهم إلى ذلك، ثم قرأته عليهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان العلم واقعاً بأنه يفعل ما أمر به لا محالة، وأنه لا يدفعه إلا إلى الملكة التي بالغ في وصفها، تشوفت النفس إلى قولها عند ذلك، فكان كأنه قيل: فأخذ الكتاب وذهب به، فلما ألقاه إليها وقرأته، وكانت قارئة كاتبة من قوم تبع {قالت} لقومها بعد أن جمعتهم معظمة لهم، أو لأشرافهم فقط: {يا أيها الملأ} أي الأشراف.
ولما كان من شأن الملوك أن لا يصل إليهم أحد بكتاب ولا غيره إلا على أيدي جماعتهم، عظمت هذا الكتاب بأنه وصل إليها على غير ذلك المنهاج فبنت للمفعول قولها: {إني ألقي إليَّ} أي بإلقاء ملق على وجه غريب {كتاب} أي صحيفة مكتوب فيها كلام وجيز جامع.
ولما كان الكريم كما تقدم في الرعد -من ستر مساوئ الأخلاق بإظهار معاليها لأنه ضد اللئيم، وكان هذا الكتاب قد حوى من الشرف أمراً باهراً لم يعهد مثله من جهة المرسل والرسول والافتتاح بالاسم الأعظم إلى ما له من وجازة اللفظ وبلوغ المعنى، قالت: {كريم}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهي تصف الكتاب بأنه (كريم). وهذا الوصف ربما خطر لها من خاتمه أو شكله. أو من محتوياته التي أعلنت عنها للملأ..وفحوى الكتاب في غاية البساطة والقوة فهو مبدوء باسم الله الرحمن الرحيم. ومطلوب فيه أمر واحد: ألا يستكبروا على مرسله ويستعصوا، وأن يأتوا إليه مستسلمين لله الذي يخاطبهم باسمه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ووصف الكتاب بالكريم ينصرف إلى نفاسته في جنسه كما تقدم عند قوله تعالى: {لهم مغفِرَة ورزق كريم} في سورة الأنفال (74)؛ بأن كان نفيسَ الصحيفة نفيسَ التخطيط بهيجَ الشكل مستوفياً كل ما جرت عادة أمثالهم بالتأنق فيه..
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(إنّي ألقي إلي كتاب كريم) «أي قيم» لعله لمحتواه العميق، أو لأنّه بدئ باسم الله أو لأنّه ختم بإمضاء صحيح. أو لأنّ مرسله رجل عظيم، وقد احتمل كل مفسّر وجهاً منها أو جميعها لأنّه لا منافاة بينها جميعاً. وقد تجتمع جميعها في هذا المفهوم الجامع!.