يقول تعالى مخاطبا للمشركين الذين افتروا على الله ، وجعلوا معه آلهة أخرى ، وادعوا أن الملائكة بنات الله ، وجعلوا لله ولدا - تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا - ومع هذا كذبوا بالحق إذ جاءهم على ألسنة رسل الله ، صلوات الله [ وسلامه ]{[25127]} عليهم أجمعين ، ولهذا قال : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ } أي : لا أحد أظلم من هذا ؛ لأنه جمع بين طرفي الباطل ، كذب على الله ، وكَذَّب رسول الله ، قالوا الباطل وردوا الحق ؛ ولهذا قال متوعدا لهم : { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ } وهم الجاحدون المكذبون .
{ فمن أظلم ممن كذب على الله } بإضافة الولد والشريك إليه . { وكذب بالصدق } وهو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم . { إذ جاءه } من غير توقف وتفكر في أمره . { أليس في جهنم مثوى للكافرين } وذلك يكفيهم مجازاة لأعمالهم ، واللام تحتمل العهد والجنس ، واستدل به على تكفير المبتدعة فإنهم يكذبون بما علم صدقه وهو ضعيف لأنه مخصوص بمن فاجأ ما علم مجيء الرسول به بالتكذيب .
ثم وقفهم توقيفاً معناه نفي الموقف عليه بقوله : { فمن أظلم ممن } أي لا أحد أظلم ممن كذب على الله ، والإشارة بهذا الكذب بقولهم : إن لله صاحبة وولداً وقولهم : إن كذا حرام ، وإن كان حلال افتراء على الله ، وكذبوا أيضاً بالصدق ، وذلك تكذيبهم أقوال محمد عليه السلام عن الله تعالى ما كان من ذلك معجزاً أو غير معجز . ثم توعدهم تعالى تواعداً فيه احتقارهم بقوله على وجه التوقيف : { أليس في جنهم مثوى للكفارين } ، والمثوى موضع الإقامة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فمن أظلم ممن كذب على الله} بأن له شريكا.
{وكذب بالصدق} يعني بالحق وهو التوحيد.
{إذ جاءه} يعني لما جاءه البيان هذا المكذب بالتوحيد.
{أليس في جهنم مثوى} يعني مأوى {للكافرين}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"فَمَنْ أظْلَمُ مِمّنْ كَذَبَ عَلى اللّهِ وكَذّبَ بالصّدْقِ إذْ جاءَهُ" يقول تعالى ذكره: فمن من خلق الله أعظم فرية ممن كذب على الله، فادّعى أن له ولدا وصاحبه، أو أنه حرّم ما لم يحرمه من المطاعم، "وكَذّبَ بالصّدْقِ إذْ جاءَهُ "يقول: وكذّب بكتاب الله إذ أنزله على محمد، وابتعثه الله به رسولاً، وأنكر قول لا إله إلا الله... وقوله: "ألَيْسَ فِي جَهَنّمَ مَثْوًى للْكافِرِينَ" يقول تبارك وتعالى: أليس في النار مأوى ومسكن لمن كفر بالله، وامتنع من تصديق محمد صلى الله عليه وسلم، واتباعه على ما يدعوه إليه مما أتاه به من عند الله من التوحيد، وحكم القرآن؟
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ}: لا ظلم أعظم، ولا أفحش مما يُكذَب على من يتقلّب في إحسانه، ويتصرف في نعمائه، وأنتم متقلّبون في نعم الله وأنواع إحسانه. فلا ظلم أعظم ولا أفحش من تكذيب خبره وردّه؛ إذ لا خبر أصدق من خبره، ولا حديث أحق من حديثه.
{أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} كأنه يقول: أليست جهنم كافية للكافرين مثوى.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"فمن أظلم" صورته صورة الاستفهام والمراد به التقريع والتوبيخ.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(أليس في جهنم مثوى للكافرين) استفهام بمعنى التقرير...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
ثم توعدهم توعداً فيه احتقارهم على جهة التوقيف، وللكافرين مما قام فيه الظاهر مقام المضمر، أي مثوى لهم، وفيه تنبيه على علة كذبهم وتكذبيهم، وهو الكفر...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
لا أحد أظلم من هذا؛ لأنه جمع بين طرفي الباطل، كذب على الله، وكَذَّب رسول الله، قالوا الباطل وردوا الحق...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
كان الكاذب في أقل الأشياء ظالماً، وأظلم منه الكاذب على الأكابر، وأظلم الظالمين الكاذب على الله...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أفادت الفاء تفريع ما بعدها على ما قبلها تفريعَ القضاء عن الخصومة التي في قوله: {ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون} إذ قد علمتَ أن الاختصام كُنِّيَ به عن الحكم بينهم فيما خالفوا فيه وأنكروه، والمعنى: يقضي بينكم يوم القيامة فيكون القضاء على من كذَب على الله وكذَّب بالصدق إذ جاءه إذ هو الذي لا أظلم منه.
وعدل عن الإتيان بضميرهم إلى الإِتيان بالموصول لما في الصلة من الإِيماء إلى وجه كونهم أظلم الناس. وإنما اقتصر في التعليل على أنهم كذَبوا على الله وكذَّبوا بالصدق لأن هذين الكذبَيْن هما جُماع ما أتوا به من الظلم المذكور آنفاً.
والصدق: ضد الكذب. والمراد بالصدق القرآن الذي جَاء به النبي، ومجيء الصدق إليهم: بلوغه إياهم، أي سماعهم إياه وفهمهم فإنه بلسانهم وجاء بأفصح بيان بحيث لا يُعرِض عنه إلا مكابر مُؤثِر حظوظ الشهوة والباطل على حظوظ الإِنصاف والنجاة.
وفي الجمع بين كلمة (الصدق) وفعل كَذَبَ} محسن الطباق.
{إذْ جاءَهُ} متعلق ب {كَذَبَ،} و {إِذْ} ظرف زمن ماض وهو مشعر بالمقارنة بين الزمن الذي تدل عليه الجملةُ المضاف إليها، وحصول متعلقه، فقوله: {إذْ جاءَهُ} يدل على أنه كذَّب بالحق بمجرد بلوغه إياه بدون مهلة، أي بادر بالتكذيب بالحق عند بلوغه إياه من غير وقفة لإِعمال رؤية ولا اهتمام بمَيْز بين حق وباطل.
وجملة {أليس في جهنَّم مَثْوى للكافرين} مبينة لمضمون جملة {فمن أظلم ممن كَذَب على الله} أي أن ظلمهم أوجب أن يكون مثواهم في جهنم.
والاستفهام تقريري، وإنما وُجِّه الاستفهام إلى نفي ما المقصودُ التقريرُ به جرياً على الغالب في الاستفهام التقريري وهي طريقة إرخاء العنان للمقرَّر بحيث يُفتح له باب الإِنكار علماً من المتكلم بأن المخاطب لا يَسعه الإِنكار فلا يلبث أن يقر بالإِثبات، ويجوز أن يكون الاستفهام إنكارياً رداً لاعتقادهم أنهم ناجون من النار الدال عليه تصميمهم على الإِعراض عن التدبر في دعوة القرآن.
الكافرون: هم الذين كفروا بالله فأثبتوا له الشركاء أو كذبوا الرسل بعد ظهور دلالة صدقهم، والتعريف في (الكافرين) للجنس المفيد للاستغراق فشمل الكافرين المتحدث عنهم شمولاً أوليا. وتكون الجملة مفيدة للتذييل أيضاً، ويكون اقتضاء مصير الكافرين المتحدث عنهم إلى النار ثابتاً بشبه الدليل الذي يعم مصير جميع الجنس الذي هم من أصنافه، وليس في الكلام إظهار في مقام الإِضمار.