78- ولم يكن بد من محاولة لتخليص أخيهم أو افتدائه ، رجاء أن تصدق مواثيقهم ليعقوب ، فاتجهوا إلى ترقيق قلب يوسف بحديث الأبوة في شيخوختها وقالوا له : - أيها العزيز - إن لأخينا أباً طاعناً في السن ، فإن رحمته قبلت واحداً منا ليلقى الجزاء بدل ابنه هذا الذي تعلق به قلبه ، وأملنا أن تقبل الرجاء ، فقد جربنا عادتك الكريمة ، وتأكد لنا انطباعكم عن حب الإحسان وعمل المعروف .
قوله تعالى : { قالوا يا أيها العزيز إن له أباً شيخاً كبيراً } . وفى القصة أنهم غضبوا غضبا شديدا لهذه الحالة ، وكان بنو يعقوب إذا غضبوا لم يطاقوا ، وكان روبيل إذا غضب لم يقم لغضبه شيء ، وإذا صاح ألقت كل امرأة حامل سمعت صوته ولدها ، وكان من هذا إذا مسه أحد من ولد يعقوب سكن غضبه . وقيل : كان هذا صفة شمعون من ولد يعقوب . وروي أنه قال لإخوته : كم عدد الأسواق بمصر ؟ فقالوا عشرة ، فقال : اكفوني أنتم الأسواق وأنا أكفيكم الملك ، أو اكفوني أنتم الملك وأنا أكفيكم الأسواق ، فدخلوا على يوسف فقال روبيل : لتردن علينا أخانا أو لأصيحن صيحة لا تبقى بمصر امرأة حامل إلا ألقت ولدها وقامت كل شعرة في جسد روبيل فخرجت من ثيابه ، فقال يوسف لابن له صغير : قم إلى جنب روبيل فمسه . وروي : خذ بيده فأتني به ، فذهب الغلام فمسه فسكن غضبه . فقال روبيل : إن هاهنا لبزرا من بزر يعقوب ، فقال يوسف : من يعقوب ؟ وروي أنه غضب ثانيا فقام إليه يوسف فركضه برجله وأخذ بتلابيبه ، فوقع على الأرض وقال : أنتم معشر العبرانيين تظنون أن لا أحد أشد منكم ؟ فلما صار أمرهم إلى هذا ورأوا أن لا سبيل لهم إلى تخليصه خضعوا وذلوا ، وقالوا : يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا يحبه ، { فخذ أحدنا مكانه } ، بدلا منه ، { إنا نراك من المحسنين } ، في أفعالك . وقيل : من المحسنين إلينا في توفية الكيل وحسن الضيافة ورد البضاعة . وقيل : يعنون إن فعلت ذلك كنت من المحسنين .
وعندئذ عادوا إلى الموقف المحرج الذي وقعوا فيه . عادوا إلى الموثق الذي أخذه عليهم أبوهم : ( لتأتنني به إلا أن يحاط بكم ) . . فراحوا يسترحمون يوسف باسم والد الفتى ، الشيخ الكبير ، ويعرضون أن يأخذ بداله واحد منهم إن لم يكن مطلقه لخاطر أبيه ؛ ويستعينون في رجائه بتذكيره بإحسانه وصلاحه وبره لعله يلين :
( قالوا : يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا ، فخذ أحدنا مكانه ، إنا نراك من المحسنين )
لما تعين أخْذ بنيامين وتقرر تركه عند يوسف بمقتضى اعترافهم ، شرعوا يترققون له ويعطفونه عليهم ، ف { قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا } يعنون : وهو يحبه حبا شديدا ويتسلى به عن ولده الذي فقده ، { فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ } أي : بدله ، يكون عندك عِوَضًا عنه ، { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } {[15248]} أي : من العادلين المنصفين القابلين للخير .
نَادَوْا بوصف العزيز إمّا لأنّ كلّ رئيس ولاية مهمة يدعى بما يرادف العزيز فيكون يوسف عليه السلام عزيزاً ، كما أن رئيس الشرطة يدعى العزيز كما تقدم في قوله تعالى : { امرأة العزيز } [ سورة يوسف : 30 ] ؛ وإما لأن يوسف ضمت إليه ولاية العزيز الذي اشتراه فجمع التصرفات وراجعوه في أخذ أخيهم .
ووصفوا أباهم بثلاث صفات تقتضي الترقيق عليه ، وهي : حنان الأبوة ، وصفة الشيخوخة ، واستحقاقه جبر خاطره لأنه كبير قومه أو لأنه انتهى في الكِبر إلى أقصاه ؛ فالأوصاف مسوقة للحث على سراح الابن لا لأصل الفائدة لأنهم قد كانوا أخبروا يوسف عليه السلام بخبر أبيهم .
والمراد بالكبير : إما كبير عشيرته فإساءته تسوءهم جميعاً ومن عادة الولاة استجلاب القبائل ، وإما أن يكون { كبيراً } تأكيداً ل { شيخا } أي بلغ الغاية في الكبر من السن ، ولذلك فرّعوا على ذلك { فخذ أحدنا مكانه } ، إذ كان هو أصغر الإخوة ، والأصغر أقرب إلى رقة الأب عليه .
وجملة { إنا نراك من المحسنين } تعليل لإجابة المطلوب لا للطلب . والتقدير : فلا تردّ سؤالنا لأنّا نراك من المحسنين فمثلك لا يصدر منه ما يسوء أباً شيخاً كبيراً .
والمكان : أصله محل الكون أي ما يستقر فيه الجسم ، وهو هنا مجاز في العوض لأن العوض يضعه آخذه في مكان الشيء المعوّض عنه كما في الحديث « هذه مَكانُ حجتك » .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قالوا}، أي إخوة يوسف ليوسف: {يا أيها العزيز}، وذلك أن أرض مصر صارت إليه، وهو خازن الملك، {إن له}، يعني بنيامين، {أبا شيخا كبيرا} حزينا على ابن مفقود {فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين} إلينا إن فعلت بنا ذلك...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قالت إخوة يوسف ليوسف:"يا أيّها العَزِيزُ"... "إنّ لَهُ أبا شَيْخا كَبِيرا "كَلِفا بحبه، يعنون يعقوب. "فَخُذْ أحَدنا مَكانَهُ "يعنون فخذ أحدا منا بدلاً من بنيامين، وخلّ عنه. "إنّا نَرَاكَ مِنَ المُحْسِنِينَ" يقولون: إنا نراك من المحسنين في أفعالك...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ) أرادوا، والله أعلم، أن يرقوا قلبه بهذا (إن له أبا شيخا كبيرا) لما يكون قلب الشيخ لولده الصغير أميل، ويكون عنده آثر وأكثر منزلة (فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ) لما أحسن إليهم في الكيل والإنزال في المنزل والضيافة والقرى؛ قد رأوه، وعلموه محسنا.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
استعطفوه بإذكارهم إياه حق أبيهم يعقوب، وأنه شيخ كبير السنّ أو كبير القدر، وأنّ بنيامين أحب إليه منهم، وكانوا قد أخبروه بأن ولداً له قد هلك وهو عليه ثكلان، وأنه مستأنس بأخيه {فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ} فخذه بدله على وجه الاسترهان أو الاستعباد.
{إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} إلينا فأتمم إحسانك. أو من عادتك الإحسان فاجْرِ على عادتك ولا تغيرها.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
لما تعين أخْذ بنيامين وتقرر تركه عند يوسف بمقتضى اعترافهم، شرعوا يترققون له ويعطفونه عليهم، ف {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا} يعنون: وهو يحبه حبا شديدا ويتسلى به عن ولده الذي فقده، {فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ} أي: بدله، يكون عندك عِوَضًا عنه.
{إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} أي: من العادلين المنصفين القابلين للخير.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وعندئذ عادوا إلى الموقف المحرج الذي وقعوا فيه. عادوا إلى الموثق الذي أخذه عليهم أبوهم: (لتأتنني به إلا أن يحاط بكم).. فراحوا يسترحمون يوسف باسم والد الفتى، الشيخ الكبير، ويعرضون أن يأخذ بداله واحد منهم إن لم يكن مطلقه لخاطر أبيه؛ ويستعينون في رجائه بتذكيره بإحسانه وصلاحه وبره لعله يلين...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ووصفوا أباهم بثلاث صفات تقتضي الترقيق عليه، وهي: حنان الأبوة، وصفة الشيخوخة، واستحقاقه جبر خاطره لأنه كبير قومه أو لأنه انتهى في الكِبر إلى أقصاه؛ فالأوصاف مسوقة للحث على سراح الابن لا لأصل الفائدة لأنهم قد كانوا أخبروا يوسف عليه السلام بخبر أبيهم...
وجملة {إنا نراك من المحسنين} تعليل لإجابة المطلوب لا للطلب. والتقدير: فلا تردّ سؤالنا لأنّا نراك من المحسنين فمثلك لا يصدر منه ما يسوء أباً شيخاً كبيراً...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
... نادوه بالمنصب مهابة وإجلالا، وتقربا، وذكروا حالهم، وهو أنه له أبا شيخا كبيرا قد تعلق به، وإن أي واحد منهم قابل لأن يكون في الرق مكانه، ولكن يوسف عليه السلام لا يريد أحدا غيره؛ لأنه حبيبه في باطن الأمر وفي ظاهره هو السارق، ويتخذ من الظاهر ذريعة إلى تحقيق الباطن، فباسم الظاهر يقول لإخوته: لا نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده، فلا نأخذ غيره بجريرته، إنا إذا لظالمون، أي إنا معشر الحاكمين نكون إذن ظالمين، إذا أخذنا مكان الجاني غيره، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وكل امرئ بما كسب رهين، وقد أكد الحكم بالظلم على من يأخذ بدل الجاني. ويلاحظ هنا أمران: الأمر الأول: أن ينبوع الشفقة على أبيهم أخذ ينبع من قلوبهم، فقبلوا أن يكون أحدهم في الرق بدل أخيهم المحسود، رفقا بأبيهم، وللعهد الذي أخذ عليهم. الأمر الثاني: أنهم نادوا يوسف بأنه العزيز، ويستفاد من الكلام أنه آل إليه أمر مصر، ويؤيد هذا أن أخبر الله بعد أنه استولى على العرش...