وإن سنة الله لماضية لا تتخلف ؛ وهلاك الأمم مرهون بأجلها الذي قدره الله لها ؛ مترتب على سلوكها الذي تنفذ به سنة الله ومشيئته :
( وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم ، ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ) .
فلا يغرنهم تخلف العذاب عنهم فترة من الوقت ، فإنما هي سنة الله تمضي في طريقها المعلوم . ولسوف يعلمون .
وذلك الكتاب المعلوم والأجل المقسوم ، يمنحه الله للقرى والأمم ، لتعمل ، وعلى حسب العمل يكون المصير . فإذا هي آمنت وأحسنت وأصلحت وعدلت مد الله في أجلها ، حتى تنحرف عن هذه الأسس كلها ، ولا تبقى فيها بقية من خير يرجى ، عندئذ تبلغ أجلها ، وينتهي وجودها ، إما نهائيا بالهلاك والدثور ، وإما وقتيا بالضعف والذبول .
ولقد يقال : إن أمما لا تؤمن ولا تحسن ولا تصلح ولا تعدل . وهي مع ذلك قوية ثرية باقية . وهذا وهم . فلا بد من بقية من خير في هذه الأمم . ولو كان هو خير العمارة للأرض ، وخير العدل في حدوده الضيقة بين أبنائها ، وخير الإصلاح المادي والإحسان المحدود بحدودها . فعلى هذه البقية من الخير تعيش حتى تستنفدها فلا تبقى فيها من الخير بقية . ثم تنتهي حتما إلى المصير المعلوم .
ومعنى قوله : { وما أهلكنا من قرية } الآية ، أي لا تستبطئن هلاكهم فليس قرية مهلكة إلا بأجل وكتاب معلوم محدود . والواو في قوله : { ولها } هو واو الحال .
وقرأ ابن أبي عبلة «إلا لها » بغير واو . وقال منذر بن سعيد : هذه الواو هي التي تعطي أن الحالة التي بعدها في اللفظ هي في الزمن قبل الحالة التي قبل الواو{[7131]} ، ومنه قوله : { حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها }{[7132]} [ الزمر : 73 ] وباقي الآية بين .
اعتراض تذييلي لأن في هذه الجملة حكماً يشملهم وهو حكم إمهال الأمم التي حق عليها الهلاك ، أي ما أهلكنا أمّة إلا وقد متّعناها زمناً وكان لهلاكها أجل ووقت محدود ، فهي ممتعة قبل حلوله ، وهي مأخوذة عند إبانه .
وهذا تعريض لتهديد ووعيد مؤيدٌ بتنظيرهم بالمكذبين السالفين .
وإنما ذكر حال القرى التي أهلكت من قبلُ لتذكير هؤلاء بسنّة الله في إمهال الظالمين لئلا يغرّهم ما هم فيه من التمتع فيحسبوا أنهم أفلتوا من الوعيد . وهذا تهديد لا يقتضي أن المشركين قدر الله أجلاً لهلاكهم ، فإن الله لم يستأصلهم ولكن هدى كثيراً منهم إلى الإسلام بالسيف وأهلك سادتهم يوم بدر .
والقَرْية : المدينة . وتقدمت عند قوله تعالى : { أو كالذي مرّ على قرية } في سورة البقرة ( 259 ) .
والكتاب : القَدَر المحدود عند الله . شبّه بالكتاب في أنه لا يقبل الزيادة والنقص . وهو معلوم عند الله ، لا يضلّ ربي ولا ينسى .
وجملة { ولها كتاب معلوم } في موضع الحال ، وكفاك علماً على ذلك اقترانها بالواو فهي استثناء من عموم أحوال ، وصاحب الحال هو { قرية } وهو وإن كان نكرة فإن وقوعها في سياق النفي سوّغ مجيء الحال منه كما سوّغ العموم صحة الإخبار عن النكرة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم خوف كفار مكة بمثل عذاب الأمم الخالية، فقال سبحانه: {وما أهلكنا من قرية}، يقول: وما عذبنا من قرية، {إلا ولها} بهلاكها {كتاب معلوم}، يعني موقوت في اللوح المحفوظ إلى أجل، وكذلك كفار مكة عذابهم إلى أجل معلوم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"وَما أهْلَكْنا" يا محمد "مِنْ" أهل "قَرْيَةٍ" من أهل القرى التي أهلكنا أهلها فيما مضى.
"إلاّ ولَهَا كِتابٌ مَعْلُومٌ" يقول: إلا ولها أجل مؤقّت ومدة معروفة لا نهلكهم حتى يبلغوها، فإذا بلغوها أهلكناهم عند ذلك، فيقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فكذلك أهل قريتك التي أنت منها وهي مكة، لا نهلك مشركي أهلها إلا بعد بلوغ كتابهم أجله، لأن مِنْ قضائي أن لا أهلك أهل قرية إلا بعد بلوغ كتابهم أجله...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال الحسن: وما أهلكنا أهل قرية إهلاك تعذيب إلا وقد أرسلنا إليهم رسلا بكتاب معلوم، يتلون ذلك الكتاب المعلوم عليهم. فإذا كذبوهم، وأيسوا من إيمانهم، فعند ذلك يهلكون إهلاك تعذيب، وهو ما قال: {وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلوا عليهم آياتنا} (القصص: 59) فعلى ذلك الأول. وقال بعضهم: {وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم} يقول: كتاب، فيه أجل معلوم مؤقت. على هذا التأويل كأنه قد خرج جوابا لقول كان من أولئك الكفرة عن استعجالهم الإهلاك.
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما توعد من قبل من كذب الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: {ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون} أتبعه بما يؤكد الزجر وهو قوله تعالى: {ومآ أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم} في الهلاك والعذاب وإنما يقع فيه التقديم والتأخير فالذين تقدموا كان وقت هلاكهم في الكتاب معجلا، والذين تأخروا كان وقت هلاكهم في الكتاب مؤخرا وذلك نهاية في الزجر والتحذير.
المسألة الثانية: قال قوم المراد بهذا الهلاك عذاب الاستئصال الذي كان الله ينزله بالمكذبين المعاندين كما بينه في قوم نوح وقوم هود وغيرهم، وقال آخرون: المراد بهذا الهلاك الموت. قال القاضي: والأقرب ما تقدم، لأنه في الزجر أبلغ، فبين تعالى أن هذا الإمهال لا ينبغي أن يغتر به العاقل لأن العذاب مدخر... وقال قوم آخرون: المراد بهذا الهلاك مجموع الأمرين وهو نزول عذاب الاستئصال ونزول الموت، لأن كل واحد منهما يشارك الآخر في كونه هلاكا، فوجب حمل اللفظ على القدر المشترك الذي يدخل فيه القسمان معا.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
...وهذا تنبيه لأهل مكة، وإرشاد لهم إلى الإقلاع عما هم فيه من الشرك والعناد والإلحاد، الذي يستحقون به الهلاك.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما هددوا بآية التمتع وإلهاء الأمل، وكان من المعلوم جداً من أحوالهم الاستعجال بالعذاب تكذيباً واستهزاء، كان الكلام في قوة أن يقال: فقالوا: يا أيها الذي نزل عليه الذكر! عجل لنا ما تتوعدنا به، وكان هذا غائظاً موجعاً حاملاً على تمني سرعة الإيقاع بهم، فقيل في الجواب: إن لهم أجلاً بكتاب معلوم لا بد من بلوغهم له، لأن المتوعد لا يخاف الفوت فهو يمهل ولا يهمل، لأنه لا يبدل القول لديه، فليستعدوا فإن الأمر غيب، فما من لحظة إلا وهي صالحة لأن يتوقع فيه العذاب، فإنا لا نهلكهم إلا إذا بلغوا كتابهم المعلوم {وما} جعلنا هذا خاصاً بهم، بل هو عادتنا، ما {أهلكنا} أي على ما لنا من العظمة، وأكد النفي فقال: {من قرية} أي من القرى.
ولما كان السياق للإهلاك واستعجالهم واستهزائهم به، وكان تقديره سبحانه وكتُبه من عالم الغيب، اقتضى الحال التأكيد بما يدل على أنه محتوم مفروغ منه سابق تقديره على زمن الإهلاك، فأتى بالواو لأن الحال بدون الواو كالجزء من سابقها، كالخبر والنعت الذي لا يتم المعنى بدونه، والتي بالواو هي زيادة في الخبر السابق، ولذلك احتيج إلى الربط بالواو كما يربط بها في العطف، فقال: {إلا ولها} أي والحال أنه لها في الإهلاك أو لإهلاكها {كتاب معلوم} أي أجل مضروب مكتوب في اللوح المحفوظ، أو يكون التقدير: فسوف يعلمون إذا جاءهم العذاب في الأجل الذي كتبناه لهم: هل يودون الإسلام أم لا؟
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{كِتَابٌ} أي أجلٌ... واجبُ المراعاة بحيث لا يمكن تبديلُه لوقوعه حسب الحكمةِ المقتضيةِ له.
{مَّعْلُومٌ} لا يُنسى ولا يُغفل عنه حتى يُتصورَ التخلفُ عنه بالتقدم والتأخر...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
{وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم} أي أجل مقدر ليتأمل في أسباب الهلاك ليتخلص عنها. وذلك بما قام من الحجة عليها، يتقدم الإنذار وتكرره على سمعهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وإن سنة الله لماضية لا تتخلف؛ وهلاك الأمم مرهون بأجلها الذي قدره الله لها؛ مترتب على سلوكها الذي تنفذ به سنة الله ومشيئته: (وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم، ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون). فلا يغرنهم تخلف العذاب عنهم فترة من الوقت، فإنما هي سنة الله تمضي في طريقها المعلوم. ولسوف يعلمون. وذلك الكتاب المعلوم والأجل المقسوم، يمنحه الله للقرى والأمم، لتعمل، وعلى حسب العمل يكون المصير. فإذا هي آمنت وأحسنت وأصلحت وعدلت مد الله في أجلها، حتى تنحرف عن هذه الأسس كلها، ولا تبقى فيها بقية من خير يرجى، عندئذ تبلغ أجلها، وينتهي وجودها، إما نهائيا بالهلاك والدثور، وإما وقتيا بالضعف والذبول. ولقد يقال: إن أمما لا تؤمن ولا تحسن ولا تصلح ولا تعدل. وهي مع ذلك قوية ثرية باقية. وهذا وهم. فلا بد من بقية من خير في هذه الأمم. ولو كان هو خير العمارة للأرض، وخير العدل في حدوده الضيقة بين أبنائها، وخير الإصلاح المادي والإحسان المحدود بحدودها. فعلى هذه البقية من الخير تعيش حتى تستنفدها فلا تبقى فيها من الخير بقية. ثم تنتهي حتما إلى المصير المعلوم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
...وهذا تهديد لا يقتضي أن المشركين قدر الله أجلاً لهلاكهم، فإن الله لم يستأصلهم ولكن هدى كثيراً منهم إلى الإسلام بالسيف وأهلك سادتهم يوم بدر.
والقَرْية: المدينة. وتقدمت عند قوله تعالى: {أو كالذي مرّ على قرية} في سورة البقرة (259). والكتاب: القَدَر المحدود عند الله. شبّه بالكتاب في أنه لا يقبل الزيادة والنقص. وهو معلوم عند الله، لا يضلّ ربي ولا ينسى.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
...فلكل جماعة من الناس، في أيّة قرية أو منطقة، أجل معلوم عند الله، يقف عنده تاريخها، وتنتهي معه حياتها، فلا مجال للخلود. ولهذا فلا معنى للأمل الطويل الممتد، ولا بد لهؤلاء من أن يستفيدوا من هذا الحدّ الواقع في دائرة البداية والنهاية، ليحققوا نموهم الفكري والعملي الذي يحقق للحياة معناها، ويرفع قيمتها في ميزان الله، في المشاريع التي يقومون بها، استثماراً لطاقاتهم، ورفعاً لمستوى الحياة من حولهم، واستجلاباً للنفع للناس، فينالون بذلك الدرجة الرفيعة عند الله. إن العمر فرصة ممارسة المسؤولية، ولا بد من المسارعة في الاستفادة منها قبل فوات الأوان...