الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَمَآ أَهۡلَكۡنَا مِن قَرۡيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٞ مَّعۡلُومٞ} (4)

قوله تعالى : { إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ } : فيه أوجه ، أحدُها : - وهو الظاهرُ- أنها واوُ الحالِ ، ثم لك اعتباران ، أحدُهما : أن تجعل الحالَ وحدَها الجارَّ ، ويرتفع " كتابٌ " به فاعلاً . والثاني : أن تجعلَ الجارَّ خبراً مقدماً ، و " كتاب " مبتدأ والجملةُ حالٌ ، وهذه الحالُ لازمةٌ .

الثاني : أنَّ الواوَ مزيدةٌ ، وأيَّد هذا قولَه بقراءة ابن أبي عبلة " إلا لها " بإسقاطِها . والزيادةُ ليسَتْ بالسهلةِ .

الثالث : أنَّ الواوَ داخِلةٌ على الجملةِ الواقعة صفةً تأكيداً ، قال الزمخشري : " /والجملةُ واقعةٌ صفةً لقرية ، والقياسُ أن لا تتوسطَ هذه الواوُ بينهما كما في قوله : { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ } [ الشعراء : 208 ] وإنما توسَّطَتْ لتأكيدِ لصوق الصفة بالموصوف ، كما تقول : " وجاءني زيد عليه ثوبُه ، وجاءني وعليه ثوبُه " . وقد تَبِعَ الزمخشريُّ في ذلك أبا البقاء ، وقد سبق له ذلك أيضاً في البقرة عند قوله تعالى : { وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } [ الآية : 216 ] .

قال الشيخ : " ولا نَعْلَمُ أحداً قاله من النحويين ، وفي محفوظي أنَّ ابنَ جني سَبَقهما إلى ذلك " . ثم قال الشيخ : " وهو مبنيٌّ على جوازِ أنَّ ما بعد " إلا " يكون صفةً ، وقد مَنَعُوا ذلك . قال الأخفش : " لا يُفْصَل بين الصفةِ والموصوفِ ب " إلا " . ثم قال : وأمَّا نحوُ : " ما جاءني رجلٌ إلا راكبٌ " على تقدير : إلا رجلٌ راكب ، وفيه قُبْحٌ لِجَعْلِكَ الصفةَ كالاسم " . وقال أبو عليّ : " تقول : ما مررتُ بأحدٍ إلا قائماً ، " قائماً " حال ، ولا تقول : إلا قائمٍ ، لأنَّ " إلاَّ " لا تعترضُ بين الصفةِ والموصوفِ " . وقال ابنُ مالك -وقد ذكر ما ذهب إليه الزمخشريُّ في قوله " ما مررت بأحدٍ إلا زيدٌ خيرٌ منه " : إنَّ الجملة بعد " إلا " صفةٌ ل " أحد " : " إنه مذهبٌ لا يُعرف لبصريٍّ ولا كوفيٍّ ، فلا يُلتفتُ إليه ، وأَبْطَلَ قولَه : إن الواوَ توسَّطت لتأكيدِ لُصوقِ الصفةِ بالموصوف .

قلت : قولُ الزمخشريُّ قويٌّ من حيث القياسُ ، فإنَّ الصفةَ كالحال في المعنى ، وإن كان بينهما فرقٌ مِنْ بعضِ الوجوهِ ، فكما أن الواوُ تدخلُ على الجملةِ الواقعةِ حالاً كذلك تَدْخلُ عليها واقعةً صفةً . ويقوِّيه أيضاً ما نظَّره به من الآيةِ الأخرى في قوله { إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ } ويُقَوِّيه أيضاً قراءةُ ابن أبي عبلة المتقدمةُ .

وقال منذر بن سعيد : " هذه الواوُ هي التي تعطي أنَّ الحالةَ التي بعدها في اللفظ هي في الزمنِ قبل الحالةِ التي قبل الواوِ ، ومنه قولُه تعالى : { حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } [ الزمر : 73 ] .