إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَمَآ أَهۡلَكۡنَا مِن قَرۡيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٞ مَّعۡلُومٞ} (4)

{ وَمَا أَهْلَكْنَا } شروعٌ في بيان سرِّ تأخيرِ عذابهم إلى يوم القيامة وعدمِ نظمِهم في سلك الأمم الدارجةِ في تعجيل العذاب أي ما أهلكنا { مِن قَرْيَةٍ } من القرى بالخَسف بها وبأهلها كما فُعل ببعضها أو بإخلائها عن أهلها غِبَّ إهلاكِهم كما فُعل بآخرين { إِلاَّ وَلَهَا } في ذلك الشأن { كِتَابٌ } أي أجلٌ مقدرٌ مكتوبٌ في اللوح واجبُ المراعاة بحيث لا يمكن تبديلُه لوقوعه حسب الحكمةِ المقتضيةِ له { مَّعْلُومٌ } لا يُنسى ولا يُغفل عنه حتى يُتصورَ التخلفُ عنه بالتقدم والتأخر ، فكتابٌ مبتدأٌ خبرُه الظرفُ ، والجملةُ حالٌ من ( قرية ) فإنها لعمومها لاسيما بعد تأكّدِه بكلمة مِنْ ، في حكم الموصوفة كما أشير إليه ، والمعنى ما أهلكنا قريةً من القرى في حال من الأحوال إلا حالَ أن يكون لها كتابٌ أي أجلٌ مؤقتٌ لمهلِكها قد كتبناه لا نُهلكها قبل بلوغِه ، معلومٌ لا يُغفل عنه حتى يمكنَ مخالفتُه بالتقدم والتأخر ، أو مرتفعٌ بالظرف والجملةُ كما هي حال ، أي ما أهلكنا قريةً من القرى في حال من الأحوال إلا وقد كان لها في حق هلاكِها كتابٌ أي أجلٌ مقدّرٌ مكتوبٌ في اللوح معلومٌ لا يُغفل عنه ، أو صفة لكن لا للقرية المذكورة بل للمقدرة التي هي بدلٌ من المذكورة على المختار فيكون بمنزلة كونِه صفةً للمذكورة ، أي ما أهلكنا قريةً من القرى إلا قريةً لها كتابٌ معلوم كما في قوله تعالى : { لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ لاَّ يُسْمِنُ } فإن قوله تعالى : { لاَّ يُسْمِنُ } صفةٌ لكن لا للطعام المذكورِ لأنه إنما يدلّ على انحصار طعامِهم الذي لا يُسمن في الضريع ، وليس المرادُ ذلك بل للطعام المقدر بعد إلا ، أي ليس لهم طعامٌ من شيء من الأشياء إلا طعامٌ لا يُسمن ، فليس فيه فصلٌ بين الموصوف والصفة بكلمة إلا كما تُوُهم ، وأما توسيطُ الواو بينهما وإن كان القياسُ عدمَه فللإيذان بكمال الالتصاقِ بينهما من حيث إن الواوَ شأنُها الجمعُ والربطُ ، فإن ما نحن فيه من الصفة أقوى لُصوقاً بالموصوف منها به في قوله تعالى : { وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ } فإن امتناعَ الانفكاك والإهلاكِ عن الأجل المقدرِ عقليٌّ ، وعن الإنذار عاديٌّ ، جرى عليه السنةُ الإلهية .

ولما بيّن أن الأممَ المهلَكة كان لكل منهم وقتٌ معين لهلاكهم وأن هلاكَهم لم يكن إلا حسبما كان مكتوباً في اللوح ، بيّن أن كلَّ أمةٍ من الأمم منهم ومن غيرهم لها كتابٌ لا يمكن التقدمُ عليه ولا التأخر عنه فقيل : { مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أجلها وما يستأخرون } .