وتلك العبارة الأخيرة : ( وللكافرين عذاب أليم ) . . تناسب ختام الآية السابقة ، وهي في الوقت ذاته قنطرة تربط بينها وبين الآية اللاحقة التي تتحدث عمن يحادون الله ورسوله . على طريقة القرآن في الانتقال من حديث لحديث في تسلسل عجيب :
( إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم ، وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين . يوم يبعثهم الله جميعا ، فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه ، والله على كل شيء شهيد ) . .
إن المقطع الأول في السورة كان صورة من صور الرعاية والعناية بالجماعة المسلمة . وهذا المقطع الثاني صورة من صور الحرب والنكاية للفريق الآخر . فريق الذين يحادون الله ورسوله ، أي الذين يأخذون لهم موقفا عند الحد الآخر في مواجهة الله ورسوله ! وذكر المحادة بمناسبة ذكره قبلها لحدود الله . فهؤلاء لا يقفون عند حد الله ورسوله ، بل عند الحد الآخر المواجه ! وهو تمثيل للمتخاصمين المتنازعين ، لتفظيع عملهم وتقبيح موقفهم . وساء موقف مخلوق يتحدى فيه خالقه ورازقه ، ويقف في تبجح عند الحد المواجه لحده !
هؤلاء المحادون المشاقون المتبجحون : ( كبتوا كما كبت الذين من قبلهم ) . . والأرجح أن هذا دعاء عليهم . والدعاء من الله - سبحانه - حكم . فهو المريد وهو الفعال لما يريد . والكبت القهر والذل . والذين من قبلهم إما أن يكونوا هم الغابرين من الأقوام الذين أخذهم الله بنكاله وإما أن يكونوا الذين قهرهم المسلمون في بعض المواقع التي تقدمت نزول هذه الآية ، كما حدث في غزوة بدر مثلا .
تفصل هذه العبارة بين مصير الذين يحادون الله ورسوله في الدنيا ومصيرهم في الآخرة . . لتقرير أن هذا المصير وذاك تكفلت ببيانه هذه الآيات . وكذلك لتقرير أنهم يلاقون هذه المصائر لا عن جهل ولا عن غموض في الحقيقة ، فقد وضحت لهم وعلموها بهذه الآيات البينات .
ثم يعرض مصيرهم في الآخرة مع التعقيب الموحي الموقظ المربي للنفوس :
( وللكافرين عذاب مهين . يوم يبعثهم الله جميعا ، فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه . والله على كل شيء شهيد ) . .
يخبر تعالى عمن شاقوا الله ورسوله وعاندوا شرعه{ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } أي : أهينوا ولعنوا وأخزوا ، كما فعل بمن أشبههم ممن قبلهم{ وَقَدْ أَنزلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } أي : واضحات لا يخالفها ولا يعاندها إلا كافر فاجر مكابر ، { وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ } أي : في مقابلة ما استكبروا عن اتباع شرع الله ، والانقياد له ، والخضوع لديه .
{ إِنَّ الذين يُحَآدُّونَ الله وَرَسُولَهُ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ الذين مِن قَبْلِهِمْ }
لما جرى ذكر الكافرين وجرى ذكر حدود الله وكان في المدينة منافقون من المشركين نقل الكلام إلى تهديدهم وإيقاظ المسلمين للاحتراز منهم .
والمحادَّة : المشاقَّة والمعاداة ، وقد أوثر هذا الفعل هنا لوقوع الكلام عقب ذكر حدود الله ، فإن المحادة مشتقّة من الحد لأن كل واحد من المتعاديَين كأنّه في حَدّ مخالف لحدّ الآخر ، مثل ما قيل أن العداوة مشتقة من عُدْوَة الوادي لأن كلاً من المتعاديَين يشبه من هو من الآخر في عُدوة أخرى .
وقيل : اشتقت المشاقّة من الشقة لأن كلاً من المتخالفين كأنه في شقة غير شقة الآخر .
والمراد بهم الذين يُحَادُون رسول الله صلى الله عليه وسلم المرسَلَ بدين الله فمحادته محادة لله .
والكبت : الخزي والإِذلالُ وفعل { كبتوا } مستعمل في الوعيد أي سيكبَتون ، فعبّر عنه بالمضيّ تنبيهاً على تحقيق وقوعه لصدوره عمّن لا خلاف في خبره مثل { أتى أمر الله } [ النحل : 1 ] ولأنه مُؤيِّدٌ بتنظيره بما وقع لأمثالهم . وقرينة ذلك تأكيد الخبر ب { إنّ } لأن الكلام لو كان إخباراً عن كبت وقع لم يكن ثم مقتضى لتأكيد الخبر إذ لا ينازع أحد فيما وقع ، ويزيد ذلك وضوحاً قوله : { كما كبت الذين من قبلهم } يعني الذين حادُّوا الله في غزوة الخندق . وتقدم ذكرها في سورة الأحزاب . وما كان من المنافقين فيها فالمراد بصلة { من قبلهم } من كان من قبلهم من أهل النفاق وهم يعرفونهم .
{ وَقَدْ أَنزَلْنَآ ءايات بينات } .
معترضة بين جملة { إن الذين يحادون الله ورسوله } وجملة { وللكافرين عذاب مهين } أي لا عذر لهم في محادّة الله ورسوله فإن مع الرسول صلى الله عليه وسلم آيات القرآن بيّنة على صدقه .
{ وللكافرين عَذَابٌ مهين } . عطف على جملة { كبتوا كما كبت الذين من قبلهم } ، أي لهم بعد الكبت عذاب مهين في الآخرة .
وتعريف ( الكافرين ) تعريف الجنس ليستغرق كل الكافرين . ووصف عذابهم بالمهين لمناسبة وعيدهم بالكبت الذي هو الذل والإِهانة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.