قوله تعالى : { وإذا جاؤوكم قالوا } ، يعني : هؤلاء المنافقين ، وقيل : هم الذين قالوا : { آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره } ، دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : قوله تعالى : { آمنا } بك ، وصدقناك فيما قلت ، وهم يسرون الكفر .
قوله تعالى : { وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به } ، يعني : دخلوا كافرين ، وخرجوا كافرين .
ويمضي السياق في التنفير من موالاتهم بعرض صفاتهم وسماتهم - بعد عرض تاريخهم وجزائهم - ويجيء التحذير والتوعي7ة منهم بكشف ما يبيتون . . ويبرز اليهود كذلك في الصورة ، لأن الحديث عن وقائع جارية ، ومعظم الشر كان يجيء من قبل يهود :
( وإذا جاؤوكم قالوا : آمنا . وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به . والله أعلم بما كانوا يكتمون . وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان . وأكلهم السحت ، لبئس ما كانوا يعملون ! لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت . لبئس ما كانوا يصنعون ! وقالت اليهود : يد الله مغلولة . . غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا ؛ بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء - وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا ، وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله . ويسعون في الأرض فسادا . والله لا يحب المفسدين ) . .
إنها عبارات تنشى ء صورا متحركة مشاهد حية - على طريقة التعبير القرآنية الفريدة - ومن وراء القرون يملك قارى ء هذه الآيات أن يشهد - بعين التصور - هؤلاء القوم الذين يتحدث عنهم القرآن من يهود - على الأرجح - فالسياق يتحدث عنهم ، وإن كان من الجائز أنه يعني كذلك بعض المنافقين في المدينة . . يشهدهم يجيئون للمسلمين فيقولون : آمنا . . ويشهد في جعبتهم " الكفر " وهم يدخلون به ويخرجون ؛ بينما ألسنتهم تقول غير ما في الجعبة من كفر يحملونه داخلين خارجين !
ولعلهم من يهود أولئك الذين كانوا يبيتون البلبلة وهم يقولون بعضهم لبعض : آمنوا بهذا القرآن وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون . . أي لعل المسلمين يرجعون عن دينهم بسبب هذه البلبلة والتشكيك الخبيث اللئيم .
( والله أعلم بما كانوا يكتمون ) . .
يقولها الله - سبحانه - لأنها الحقيقة ؛ ثم لكي يطمئن المؤمنون إلى كلاءة ربهم لهم ، وحفظهم من كيد عدوهم ؛ وإحاطته علما بهذا الكيد المكتوم ، ثم ليهدد أصحاب هذا الكيد لعلهم ينتهون !
وقوله : { وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ } وهذه صفة المنافقين منهم ، أنهم يصانعون المؤمنين في الظاهر وقلوبهم منطوية على الكفر ؛ ولهذا قال : { وَقَدْ دَخَلُوا [ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ ] }{[10024]} أي{[10025]} عندك يا محمد { بِالْكُفْرِ } أي : مستصحبين الكفر في قلوبهم ، ثم خرجوا وهو كامن فيها ، لم ينتفعوا بما قد سمعوا منك من العلم ، ولا نجعت فيهم المواعظ ولا الزواجر ؛ ولهذا قال : { وَهُمْ [ قَدْ ] خَرَجُوا بِهِ }{[10026]} فخصهم به دون غيرهم .
وقوله : { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ } أي : والله عالم بسرائرهم وما تنطوي عليهم ضمائرهم{[10027]} وإن أظهروا لخلقه خلاف ذلك ، وتزينوا بما ليس فيهم ، فإن عالم الغيب والشهادة أعلم بهم منهم ، وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء .
{ وإذا جاءوكم قالوا آمنا } نزلت في يهود نافقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في عامة المنافقين . { وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به } أي يخرجون من عندك كما دخلوا لم يؤثر فيهم ما سمعوا منك ، والجملتان حالان من فاعل قالوا وبالكفر وبه حالان من فاعلي دخلوا وخرجوا ، وقد وإن دخلت لتقريب الماضي من الحال ليصح أن يقع حالا أفادت أيضا لما فيها من التوقع أن أمارة النفاق كانت لائحة عليهم ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يظنه ولذلك قال : { والله أعلم بما كانوا يكتمون } أي من الكفر ، وفيه وعيد لهم .
الضمير في { جاؤوكم } لليهود المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم وخاصة للمنافقين . نص على ذلك ابن عباس وقتادة والسدي ، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم دخلوا وهم كفار وخرجوا كذلك لم تنفعهم الموعظة ولا نفع فيهم التذكير ، وقوله : { وهم } تخليص من احتمال العبارة أن يدخل قوم بالكفر ثم يؤمنوا ويخرج قوم وهم كفرة فكان ينطبق على الجميع وقد دخلوا بالكفر وقد خرجوا به ، فأزال الاحتمال قوله تعالى : { وهم قد خرجوا به } أي هم بأعيانهم ثم فضحهم تعالى بقوله : { والله أعلم بما كانوا يكتمون } أي من الكفر .
عطف { وإذا جاؤوكم } على قوله : { وإذا ناديتم إلى الصّلاة اتّخذوها هزؤاً } [ المائدة : 58 ] الآية ، وخصّ بهذه الصّفات المنافقون من اليهود من جملة الّذين اتّخذوا الدّين هزوءاً ولعباً ، فاستُكمِل بذلك التّحذيرُ ممّن هذه صفتهم المعلنين منهم والمنافقين . ولا يصحّ عطفه على صفات أهل الكتاب في قوله : { وجَعَلَ منهم القردة } [ المائدة : 60 ] لعدم استقامة المعنى ، وبذلك يستغني عن تكلّف وجه لهذا العطف .
ومعنى قوله : { وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به } أنّ الإيمان لم يخالط قلوبهم طَرْفَةَ عين ، أي هم دخلوا كافرين وخرجوا كذلك ، لشدّة قسوة قلوبهم ، فالمقصود استغراق الزمنين وما بينهما ، لأنّ ذلك هو المتعارف ، إذ الحالة إذا تبدّلت استمرّ تبدّلها ، ففي ذلك تسجيل الكذب في قولهم : آمنّا ، والعرب تقول : خرج بغير الوَجه الذي دخل به .