قوله عز وجل{ لا تحرك به لسانك لتعجل به } . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جرير ، عن موسى بن أبي عائشة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل :{ لا تحرك به لسانك لتعجل به } قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل جبريل بالوحي كان يحرك لسانه وشفتيه فيشتد عليه ، وكان يعرف منه ، فأنزل الله عز وجل الآية التي في ( لا أقسم بيوم القيامة ) { لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه } .
ثم تجيء الآيات الأربع الخاصة بتوجيه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] في شأن الوحي وتلقي هذا القرآن :
( لا تحرك به لسانك لتعجل به . إن علينا جمعه وقرآنه . فإذا قرأناه فاتبع قرآنه . ثم إن علينا بيانه ) . .
وبالإضافة إلى ما قلناه في مقدمة السورة عن هذه الآيات ، فإن الإيحاء الذي تتركه في النفس هو تكفل الله المطلق بشأن هذا القرآن : وحيا وحفظا وجمعا وبيانا ؛ وإسناده إليه سبحانه وتعالى بكليته . ليس للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] من أمره إلا حمله وتبليغه . ثم لهفة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وشدة حرصه على استيعاب ما يوحى إليه ؛ وأخذه مأخذ الجد الخالص ، وخشيته أن ينسى منه عبارة أو كلمة ، مما كان يدعوه إلى متابعة جبريل عليه السلام في التلاوة آية آية وكلمة كلمة يستوثق منها أن شيئا لم يفته ، ويتثبت من حفظه له فيما بعد !
وتسجيل هذا الحادث في القرآن المتلو له قيمته في تعميق هذه الإيحاءات التي ذكرناها هنا وفي مقدمة السورة بهذا الخصوص .
هذا تعليم من الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم في كيفية تلقيه الوحي من الملك ، فإنه كان يبادر إلى أخذه ، ويسابق الملك في قراءته ، فأمره الله عز وجل إذا جاءه الملك بالوحي أن يستمع له ، وتكفل له أن يجمعه في صدره ، وأن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه إليه ، وأن يبينه له ويفسره ويوضحه . فالحالة{[29546]} الأولى جمعه في صدره ، والثانية تلاوته ، والثالثة تفسيره وإيضاح معناه ؛ ولهذا قال : { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } أي : بالقرآن ، كما قال : { وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا } [ طه : 114 ] .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا تحرّك يا محمد بالقرآن لسانك لتعجل به. واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله قيل له:"لا تُحَرّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ"؛
فقال بعضهم: قيل له ذلك، لأنه كان إذا نزل عليه منه شيء عجل به، يريد حفظه من حبه إياه، فقيل له: لا تعجل به فإنّا سَنحفظُه عليك.
عن ابن عباس، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه القرآن تعجّل يريد حفظه، فقال الله تعالى ذكره: "لا تُحَرّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إنّ عَلَيْنَا جمْعَهُ وَقُرآنَهُ" وقال ابن عباس: هكذا، وحرّك شفتيه.
وقال آخرون: بل السبب الذي من أجله قيل له ذلك، أنه كان يُكثر تلاوة القرآن مخافة نسيانه، فقيل له: "لا تُحَرّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ" إن علينا أن نجمعه لك، ونقرئكه فلا تنسين. عن ابن عباس، قال: كان لا يفتر من القرآن مخافة أن ينساه.
وأشبه القولين بما دلّ عليه ظاهر التنزيل، القول الذي ذُكر عن ابن عباس، وذلك أن قوله: إنّ عَليْنا جَمْعَهُ وقُرآنَهُ ينبئ أنه إنما نهي عن تحريك اللسان به متعجلاً فيه قبل جمعه، ومعلوم أن دراسته للتذكر إنما كانت تكون من النبيّ صلى الله عليه وسلم من بعد جمع الله له ما يدرس من ذلك.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقن الوحي نازع جبريل القراءة، ولم يصبر إلى أن يتمها، مسارعة إلى الحفظ وخوفاً من أن يتفلت منه، فأمر بأن يستنصت له ملقياً إليه بقلبه وسمعه، حتى يقضى إليه وحيه، ثم يقفيه بالدراسة إلى أن يرسخ فيه.
والمعنى: لا تحرّك لسانك بقراءة الوحي ما دام جبريل صلوات الله عليه يقرأ {لِتَعْجَلَ بِهِ} لتأخذه على عجلة، ولئلا يتفلت منك.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
الضمير في {به} عائد على كتاب الله تعالى ولم يجر له ذكر، ولكن القرائن تبينه،... واختلف المتأولون في السبب الموجب أن يؤمر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر، فقال الشعبي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرصه على أداء الرسالة والاجتهاد في ذات الله تعالى ربما أراد النطق ببعض ما أوحي إليه قبل كمال إيراد الوحي، فأمر أن لا يعجل بالقرآن من قبل أن يفضى إليه وحيه. وجاءت هذه الآية في هذا المعنى.
وقال الضحاك: كان سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخاف أن ينسى القرآن، فكان يدرسه حتى غلب ذلك عليه وشق، فنزلت الآية في ذلك.
وقال كثير من المفسرين وهو في صحيح البخاري عن ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، وكان مما يحرك شفتيه مخافة أن يذهب عنه ما يوحى إليه، فنزلت الآية بسبب ذلك وأعمله الله تعالى أنه يجمعه له في صدره.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَك لِتَعْجَلَ بِهِ} قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُعَالِجُ من التَّنْزِيلِ شِدَّةً، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ بِهِ شَفَتَيْهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُحَرِّكُهُمَا. وَقَالَ سَعِيدٌ: أَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا رَأَيْت ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَرِّكُهُمَا، فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَك لِتَعْجَلَ بِهِ إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} قَالَ: جَمْعُهُ لَك فِي صَدْرِك وَتَقْرَؤُهُ. «فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ». قَالَ: فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ. (ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ): ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا أَنْ نَقْرَأَهُ. فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَ ذَلِكَ إذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ، فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا أَقْرَأَهُ.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم تجيء الآيات الأربع الخاصة بتوجيه الرسول [صلى الله عليه وسلم] في شأن الوحي وتلقي هذا القرآن:
(لا تحرك به لسانك لتعجل به. إن علينا جمعه وقرآنه. فإذا قرأناه فاتبع قرآنه. ثم إن علينا بيانه)..
وبالإضافة إلى ما قلناه في مقدمة السورة عن هذه الآيات، فإن الإيحاء الذي تتركه في النفس هو تكفل الله المطلق بشأن هذا القرآن: وحيا وحفظا وجمعا وبيانا؛ وإسناده إليه سبحانه وتعالى بكليته. ليس للرسول [صلى الله عليه وسلم] من أمره إلا حمله وتبليغه. ثم لهفة الرسول [صلى الله عليه وسلم] وشدة حرصه على استيعاب ما يوحى إليه؛ وأخذه مأخذ الجد الخالص، وخشيته أن ينسى منه عبارة أو كلمة، مما كان يدعوه إلى متابعة جبريل عليه السلام في التلاوة آية آية وكلمة كلمة يستوثق منها أن شيئا لم يفته، ويتثبت من حفظه له فيما بعد!
وتسجيل هذا الحادث في القرآن المتلو له قيمته في تعميق هذه الإيحاءات التي ذكرناها هنا وفي مقدمة السورة بهذا الخصوص.