وفي أنسب الظروف . . والمشاعر تفيض بالزراية والاحتقار لضعف الآلهة المدعاة يندد بسوء تقديرهم لله ، ويعرض قوة الله الحق الحقيق بأنه إله :
( ما قدروا الله حق قدره ، إن الله لقوي عزيز ) . .
ما قدروا الله حق قدره ، وهم يشركون به تلك الآلهة الكليلة العاجزة التي لا تخلق ذبابا ولو تجمعت له . بل لا تستنقذ ما يسلبها الذباب إياه !
ما قدروا الله حق قدره ، وهم يرون آثار قدرته ، وبدائع مخلوقاته ، ثم يشركون به من لا يستطيعون خلق الذباب الحقير !
ما قدروا الله حق قدره ، وهم يستعينون بتلك الآلهة العاجزة الكليلة عن استنقاذ ما يسلبها إياه الذباب ، ويدعون الله القوي العزيز . .
ثم قال : { مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } أي : ما عرفوا قدر الله وعظمته حين عبدوا معه غيره ، من هذه{[20419]} التي لا تقاوم الذباب لضعفها وعجزها ، { إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } أي : هو القوي الذي بقدرته وقوته خلق كل شيء ، { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] ، { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ . إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ } [ البروج : 12 ، 13 ] ، { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } [ الذاريات : 58 ] .
وقوله : { عَزِيزٌ } أي : قد عز{[20420]} كل شيء فقهره وغلبه ، فلا يمانع ولا يغالب ، لعظمته وسلطانه ، وهو الواحد القهار .
وقوله : ما قَدَرُوا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ يقول : ما عظم هؤلاء الذين جعلوا الاَلهة لله شريكا في العبادة حقّ عظمته حين أشركوا به غيره ، فلم يخلصوا له العبادة ولا عرفوه حقّ معرفته من قولهم : ما عرفت لفلان قدره إذا خاطبوا بذلك من قَصّر بحقه وهم يريدون تعظيمه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَإنْ يَسْلُبْهُمُ الذّبابُ شَيْئا . . . إلى آخر الاَية ، قال : هذا مثل ضربه الله لاَلهتهم . وقرأ : ضَعُفَ الطّالِبُ وَالمَطْلُوبُ ما قَدَرُوا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ حين يعبدون مع الله ما لا ينتصف من الذباب ولا يمتنع منه .
وقوله : إنّ اللّهَ لَقَوِيّ يقول : إن الله لقويّ على خلق ما يشاء من صغير ما يشاء من خلقه وكبيره . عَزِيزٌ يقول : منيع في مُلكه لا يقدر شيء دونه أن يسلبه من ملكه شيئا ، وليس كآلهتكم أيها المشركون الذين تدعون من دونه الذين لا يقدرون على خلق ذباب ولا على الامتناع من الذباب إذا استلبها شيئا ضعفا ومهانة .
تذييل للمثل بأن عبادتهم الأصنام مع الله استخفاف بحق إلهيته تعالى إذ أشركوا معه في أعظم الأوصاف أحقر الموصوفين ، وإذ استكبروا عند تلاوة آياته تعالى عليهم ، وإذ هموا بالبطش برسوله .
والقَدر : العظمة ، وفعل قَدر يفيد أنه عامل بقَدره . فالمعنى : ما عظموه حق تعظيمه إذ أشركوا معه الضعفاء العجز وهو الغالب القوي . وقد تقدّم تفسيره في قوله { وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء } في [ سورة الأنعام : 91 ] .
وجملة { إن الله لقوي عزيز } تعليل لمضمون الجملة قبلها ، فإن ما أشركوهم مع الله في العبادة كل ضعيف ذليل فما قدروه حق قدره لأنه قوي عزيز فكيف يشاركه الضعيف الذليل . والعدول عن أن يقال : ما قَدرتم الله حقّ قدره ، إلى أسلوب الغيبة ، التفات تعريضاً بهم بأنّهم ليسوا أهلاً للمخاطبة توبيخاً لهم ، وبذلك يندمج في قوله : { إن الله لقوي عزيز } تهديد لهم بأنه ينتقم منهم على وقاحتهم .
وتوكيد الجملة بحرف التوكيد ولام الابتداء مع أن مضمونها مما لا يختلف فيه لتنزيل علمهم بذلك منزلة الإنكار لأنهم لم يَجروا على موجَب العلم حين أشركوا مع القوي العزيز ضعفاء أذلة .
والقويّ : من أسمائه تعالى . وهو مستعمل في القدرة على كلّ مراد له . والعزيز : من أسمائه ، وهو بمعنى : الغالب لكلّ معاند .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ما قدروا الله حق قدره}..: ما عظموا الله حق عظمته حين أشركوا به ولم يوحدوه. {إن الله لقوي} في أمره {عزيز}، أي منيع في ملكه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"ما قَدَرُوا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ" يقول: ما عظم هؤلاء الذين جعلوا الآلهة لله شريكا في العبادة حقّ عظمته حين أشركوا به غيره، فلم يخلصوا له العبادة، ولا عرفوه حقّ معرفته، من قولهم: ما عرفت لفلان قدره إذا خاطبوا بذلك من قَصّر بحقه وهم يريدون تعظيمه...
وقوله: "إنّ اللّهَ لَقَوِيّ "يقول: إن الله لقويّ على خلق ما يشاء من صغير ما يشاء من خلقه وكبيره، "عَزِيزٌ" يقول: منيع في مُلكه، لا يقدر شيء دونه أن يسلبه من ملكه شيئا، وليس كآلهتكم أيها المشركون الذين تدعون من دونه الذين لا يقدرون على خلق ذباب، ولا على الامتناع من الذباب إذا استلبها شيئا ضعفا ومهانة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {ما قدروا الله حق قدره} اختلف فيه؛
قال بعضهم: {ما قدروا الله حق قدره} أي ما عرفوا الله حق معرفته. قالوا له بالشريك والولد والصاحبة. (وما) قالوا فيه مما لا يليق به، لأنهم لو عرفوه حق معرفته لم ينسبوا إليه، ولا وصفوه بالذي وصفوه، وعرفوه بذاته وتعاليه عن ذلك، لكن حين لم يعرفوه حق معرفته شبهوه بواحد من خلقه على ما ذكرنا.
وقال بعضهم: {ما قدروا الله حق قدره} أي ما عظموا الله حق عظمته حين صرفوا العبادة والشكر إلى غيره؛ إذ لو عظموه حق تعظيمه ما صرفوا عبادتهم وشكرهم إلى غير الذي أنعم عليهم، وما أشركوا غيره في ذلك على علم منهم أنه إنما وصلت إليهم تلك النعم من الله لا ممن عبدوه، وبالله العصمة والصواب.
ثم يكون تعظيمه ومعرفته على الحقيقة بتعظيم أموره وقبولها والقيام بها، لا في قوله: يا عظيم، يا كبير ونحوه. ولكن على ما ذكرت من تعظيم أموره وقيامه بها. وكذلك المحبة لله، إنما يكون في القيام بأموره وإقباله نحوها والانتهاء عن مناهيه لا في ما في قوله: أنا حبيبك، أو تصوير شيء في قلبه. ولكن ما ذكرت، والله أعلم.
وقوله تعالى: {إن الله لقوي عزيز}، يحتمل قوله: {إن الله لقوي عزيز} لنصر أوليائه وجعل العاقبة لهم {عزيز} أي منتقم من أعدائه. أو يقول: {لقوي} لأنه تضعف كل القوى عند قوته، {عزيز} تذل كل العزز عند عزته. أو يقول: {لقوي} لأنه به تقوى من قوي، ومنه يستفيد القوة {عزيز} لأنه به يعز من عز، ومنه كان ذلك، والله أعلم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ومَنْ لم يكن في عقيدته نَقْضٌ لِمَا يستحيل في وصفه- سبحانه -لم تُباشِرْ خلاصةُ التوحيدِ سِرَّه، وهو في تَرَجُّم فِكْرٍ، وتجويز ظنٍ، وخَطَرَ تَعَسُّف، يقعُ في كل وهدة من الضلال...
{إنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ}: قوي أي قادر على أن يخلقَ مَنْ هو فوقهم في التحصيل وكمال العقول...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{مَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} أي ما عرفوه حق معرفته، حتى لا يسموا باسمه من هو منسلخ عن صفاته بأسرها، ولا يؤهلوه للعبادة، ولا يتخذوه شريكاً له: إن الله قادر غالب، فكيف يتخذ العاجز المغلوب شبيهاً به؟
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
{إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ} لا يقهر {عَزِيزٌ} لا يرام.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
فهذا ما قدر {اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} حيث سوى الفقير العاجز من جميع الوجوه، بالغني القوي من جميع الوجوه، سوى من لا يملك لنفسه، ولا لغيره نفعا ولا ضرا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، بمن هو النافع الضار، المعطي المانع، مالك الملك، والمتصرف فيه بجميع أنواع التصريف. {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} أي: كامل القوة، كامل العزة، من كمال قوته وعزته، أن نواصي الخلق بيديه، وأنه لا يتحرك متحرك، ولا يسكن ساكن، إلا بإرادته ومشيئته، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ومن كمال قوته، أنه يمسك السماوات والأرض أن تزولا، ومن كمال قوته، أنه يبعث الخلق كلهم، أولهم وآخرهم، بصيحة واحدة، ومن كمال قوته، أنه أهلك الجبابرة والأمم العاتية، بشيء يسير، وسوط من عذابه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ما قدروا الله حق قدره، وهم يشركون به تلك الآلهة الكليلة العاجزة التي لا تخلق ذبابا ولو تجمعت له. بل لا تستنقذ ما يسلبها الذباب إياه! ما قدروا الله حق قدره، وهم يرون آثار قدرته، وبدائع مخلوقاته، ثم يشركون به من لا يستطيعون خلق الذباب الحقير! ما قدروا الله حق قدره، وهم يستعينون بتلك الآلهة العاجزة الكليلة عن استنقاذ ما يسلبها إياه الذباب، ويدعون الله القوي العزيز.. إنه تقرير وتقريع في أشد المواقف مناسبة للخشوع والخضوع!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تذييل للمثل بأن عبادتهم الأصنام مع الله استخفاف بحق إلهيته تعالى إذ أشركوا معه في أعظم الأوصاف أحقر الموصوفين، وإذ استكبروا عند تلاوة آياته تعالى عليهم، وإذ هموا بالبطش برسوله...
وجملة {إن الله لقوي عزيز} تعليل لمضمون الجملة قبلها، فإن ما أشركوهم مع الله في العبادة كل ضعيف ذليل فما قدروه حق قدره لأنه قوي عزيز فكيف يشاركه الضعيف الذليل...
والعدول عن أن يقال: ما قَدرتم الله حقّ قدره، إلى أسلوب الغيبة، التفات تعريضاً بهم بأنّهم ليسوا أهلاً للمخاطبة توبيخاً لهم، وبذلك يندمج في قوله: {إن الله لقوي عزيز} تهديد لهم بأنه ينتقم منهم على وقاحتهم...
والقويّ: من أسمائه تعالى. وهو مستعمل في القدرة على كلّ مراد له. والعزيز: من أسمائه، وهو بمعنى: الغالب لكلّ معاند.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
هذه الآية نتيجة للآيات السابقة، ولذلك كان الفصل بدل الوصل، فبينهما ما يشبه علاقة العلة في الحكم بالمعلول، أو المقدمة والنتيجة. إن هؤلاء الذين خضعوا لأوهامهم فعبدوا حجارة لا تنفع ولا تضر، وبالأولى لا تخلق ذبابا، ولو اجتمعت أصنام كل أمة وثنية ما عرفوا الله حق المعرفة، ولا أدركوا كماله وجلاله حق الإدراك، ولا عرفوا معنى الألوهية حق المعرفة، إن الله تعالى هو القادر الخالق، وهو الواحد في ذاته وصفاته، وليس في الأوثان من هذا، والله تعالى قوي قاهر، ولا يمكن أن يكون عاجزا، ولذا عرف الله تعالى رب العالمين بقوله: {إن الله لقوي عزيز}، أي قوي قادر على كل شيء، عزيز غالب لا يحتاج لشيء، ويحتاج إليه كل شيء، وهو العليم القدير.وأكد سبحانه قوته ب {إن} الدالة على توكيد الحكم، وب "اللام "في قوله تعالى: {لقوي} وب"الجملة الاسمية"، سبحانه إنه القاهر فوق عباده.
يعني: هؤلاء الكفار الذين عبدوا من دون الله آلهة لا تستطيع أن تخلق ذبابا، ولا تستطيع حتى أن ترد من الذباب ما أخذه، هؤلاء ما عرفوا لله قدره، ولو عرفوا قدر الله ما عبدوا غيره...
وعليه فإنك إن أردت أن تقدر الله تعالى حق قدره فإنك تقدره على قدر استيعاب العقل البشري، إنما قدره تعالى حقيقة فلا تحيط به، لأن كمالاته تعالى لا تتناهى ولا تدرك إدراكا تاما...
ولما نزل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته.. (102)} [آل عمران]: قال بعض الصحابة: ومن يقدر على ذلك، إنها مسألة صعبة أن نتقي الله التقوى الكاملة التي يستحقها عز وجل، فأنزل الله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم.. (16)} [التغابن]، ونزلت: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها.. (286)} [البقرة]...
وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) إذا أثنى على الله تعالى يقول:"سبحانك، لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك". لماذا؟ لأنه لا يملك أحد مهما أوتي من بلاغة الأسلوب أن يثني على الله الثناء المناسب الذي يليق به سبحانه، ومن رحمة الله تعالى بعباده أن تحمل عنهم هذه المسألة فأثنى الحق سبحانه على نفسه، وعلمنا كيف نثني عليه سبحانه، فإذا ما تحدث البليغ وأثنى على الله بفنون القول والثناء، فإن العيي الذي لا يجيد الكلام يطمئن حيث يثني على ربه بما علمه من الثناء،...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{مَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} عندما يقارنون به غيره، ويشركون بعبادته ما هو مخلوق له، أو يقصّرون في طاعته، أو ينحرفون عن هداه، ولا يستغرقون في عظمته لتمتلئ قلوبهم بالخشوع له، بعيداً عن كل من هو دونه، {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} لا يصل أحد إلى مستوى قوّته، لأن قوّته مطلقة لا تقف عند حدّ، وليس لأحدٍ قوّة إلاّ به، فالوجود كله يستمد قوته منه، وهو المهيمن على الأمر كله، لا ينتقص أحد من عزته، وهو العزيز الذي شملت عزته الوجود كله، لأنه يملكه بكل مواقعه ومظاهره، مما يجعل كل شيء ذليلاً أمامه، لأنّ العزة لله جميعاً...