والجواب في ذلة وانكسار واعتراف بالحمق والغفلة ، بعد التبجح والإنكار واتهام الرسل بالضلال :
( قالوا : بلى ! قد جاءنا نذير فكذبنا ، وقلنا : ما نزل الله من شيء . إن أنتم إلا في ضلال كبير . وقالوا : لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير ! ) . .
فالذي يسمع أو يعقل ، لا يورد نفسه هذا المورد الوبيء . ولا يجحد بمثل ما جحد به أولئك المناكيد . ولا يسارع باتهام الرسل بالضلال على هذا النحو المتبجح الوقح ، الذي لا يستند في الإنكار إلى دليل . ثم ينكر ويدعي ذلك الادعاء العريض على رسل الله الصادقين يقول : ( ما نزل الله من شيء : إن أنتم إلا في ضلال كبير ) !
يقول تعالى ذكره : تَكادُ جهنم تَمَيّزُ يقول : تتفرّق وتتقطع مِنَ الغَيْظِ على أهلها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : تَكادُ تَمَيّزُ مِنَ الغَيْظِ يقول : تتفرّق .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله تَكادُ تَمَيّزُ مِنَ الغَيْظِ تكاد يفارق بعضها بعضا وتنفطر .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : تَكادُ تَمَيّزُ مِنَ الغَيْظِ ، يقول : تفرّق .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : تَكادُ تَمَيّزُ مِنَ الغَيْظِ ، قال : التميز : التفرّق من الغيظ على أهل معاصي الله غضبا لله ، وانتقاما له .
وقوله : كُلّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سألَهُمْ ، يقول جلّ ثناؤه : كلما ألقي في جهنم جماعة سألهم خَزَنَتُها ، ألَمْ يأْتِكُمْ نَذِيرٌ يقول : سأل الفوجَ خزنةُ جهنم ، فقالوا لهم : ألم يأتكم في الدنيا نذيرٌ ينذركم هذا العذاب الذي أنتم فيه ؟ فأجابهم المساكين فقالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ ينذرنا هذا ، فَكَذّبْناهُ وَقُلْنَا له : ما نَزّلَ اللّهُ مِنْ شَيْءٍ إن أنْتُمْ إلاّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ ، يقول : في ذهاب عن الحقّ بعيد .
وجملة : { قالوا بلى قد جاءنا نذير } معترضة بين كلام خزنة جهنم اعتراضاً يشير إلى أن الفوج قاطَعَ كلام الخزنة بتعجيل الاعتراف بما وبّخوهم عليه وذلك من شدة الخوف .
وفصلت الجملة لوجهين لأنها اعتراض ، ولوقوعها في سياق المحَاورة كما تقدم غير مرة كقوله تعالى : { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } في سورة البقرة ( 30 ) . وكان جوابهم جواب المتحسر المتندم ، فابتدأوا الجواب دفعة بحرف بلى } المفيد نقيض النفي في الاستفهام ، فهو مفيد معنى : جاءنا نذير .
ولذلك كان قولهم : { قد جاءنا نذير } موكداً لما دلت عليه { بلى } ، وهو من تكرير الكلام عند التحسر ، مع زيادة التحقيق ب { قد } ، وذلك التأكيد هو مناط الندامة والاعتراف بالخطأ .
وجملة : { إن أنتم إلاَّ في ضلال كبير } الأظهر أنها بقية كلام خزنة جهنم فصل بينها وبين ما سبقها من كلامهم اعتراضُ جواببِ الفوج الموجه إليهم الاستفهام التوبيخي كما ذكرناه آنفاً ، ويؤيد هذا إعادة فعل القول في حكاية بقية كلام الفوج في قوله تعالى : { وقَالوا لو كنا نسمع } [ الملك : 10 ] الخ لانقطاعه بالاعتراض الواقع خلال حكايته .
ويجوز أن تكون جملة { إن أنتم إلا في ضلال كبير } من تمام كلام كل فوج لنذيرهم . وأتي بضمير جمع المخاطبين مع أن لكل قوم رسولاً واحداً في الغالب باستثناء موسى وهارون وباستثناء رسل أصحاب القرية المذكورة في سورة يس ؛ إما على اعتبار الحكاية بالمعنى بأن جُمع كلام جميع الأفواج في عبارة واحدة فجيء بضمير الجمع والمراد التوزيع على الأفواج ، أي قال جميع الأفواج : { بلى قد جاءنا نذير } إلى قوله : { إن أنتم إلا في ضلال كبير } ، على طريقة المثال المشهور : « ركِب القوم دوابهم » ، وإما على إرادة شمول الضمير للنذير وأتباعِه الذين يؤمنون بما جاء به .
وعموم { شيء } في قوله : { ما نزَّل الله من شيء } المرادِ منه شيء من التنزيل ، يدل على أنهم كانوا يحيلون أن يُنزل الله وحياً على بشر ، وهذه شنشنة أهل الكفر قال تعالى : { وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء } وقد تقدم في آخر [ الأنعام : 91 ] .
ووصف الضلال ب { كبير } معناه شديد بالغ غاية ما يبلغ إليه جنسه حتى كأنه جسم كبير .
ومعنى القصر المستفادِ من النفي والاستثناء في { إن أنتم إلا في ضلال كبير } قصرُ قلب ، أي ما حالكم التي أنتم متلبسون بها إلاّ الضلال ، وليس الوحَي الإِلهي والهدى كما تزعمون .
والظرفية مجازية لتشبيههم تَمَحُّضَهم للضلال بإحاطة الظرف بالمظروف .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.