إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{قَالُواْ بَلَىٰ قَدۡ جَآءَنَا نَذِيرٞ فَكَذَّبۡنَا وَقُلۡنَا مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ مِن شَيۡءٍ إِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا فِي ضَلَٰلٖ كَبِيرٖ} (9)

{ قَالُوا } اعترافاً بأنه تعالَى قد أزاحَ عللَهُم بالكليةِ { بلى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ } جامعينَ بينَ حرفِ الجوابِ ونفسِ الجملةِ المجابِ بها ، مبالغةً في الاعترافِ بمجيء النذيرِ ، وتحسراً على ما فاتَهُم من السعادةِ في تصديقِهِم ، وتمهيداً لبيانِ ما وقعَ منهُم من التفريطِ تندماً واغتماماً على ذلكَ . أيْ قالَ كلُّ فوجٍ من تلكَ الأفواجِ ، قد جاءَنا نذيرٌ ، أي واحدٌ حقيقةً أو حكماً ، كأنبياءِ بني إسرائيلَ ، فإنهم في حكمِ نذيرٍ واحدٍ ، فأنذرنا وتَلا علينا ما نزَّل الله تعالَى من آياتِهِ .

{ فَكَذَّبْنَا } ذلكَ النذيرَ في كونِهِ نذيراً من جهتِهِ تعالَى : { وَقُلْنَا } في حقِّ ما تلاهُ من الآياتِ إفراطاً في التكذيبِ وتمادياً في النكيرِ { مَا نَزَّلَ الله } على أحدٍ { مِن شَيء } من الأشياءِ فضلاً عن تنزيلِ الآياتِ عليكُم { إِنْ أَنتُمْ } أي ما أنتُم في ادعاء أنَّه تعالَى نزَّل عليكُم آياتٍ تُنذرونَنا بِمَا فيها ، { إِلاَّ فِي ضلال كَبِيرٍ } بعيدٍ عن الحقِّ والصوابِ . وجمعُ ضميرِ الخطابِ مع أنَّ مخاطِبَ كلِّ فوجٍ نذيرُهُ لتغليبِهِ على أمثاله مبالغةً في التكذيبِ وتمادياً في التضليلِ ، كما ينبئُ عنهُ تعميمُ المُنزِّلِ مع تركِ ذكرِ المُنزَّلِ عليهِ ، فإنَّه مُلوِّحٌ بعمومِهِ حتماً . وأما إقامةُ تكذيبِ الواحدِ مُقامَ تكذيبِ الكلِّ ، فأمرٌ تحقيقيٌّ يصارُ إليهِ لتهويلِ ما ارتكبُوا من الجناياتِ ، لا مساغَ لاعتبارِهِ من جهتِهِم ولا لإدراجِهِ تحت عبارَتِهِم ، كيفَ لا وهو منوطٌ بملاحظةِ إجماعِ النذرِ على ما لا يختلفُ من الشرائعِ والأحكامِ باختلافِ العصورِ والأعوامِ ، وأين هُم من ذلك وقد حال الجريضُ دونَ القريضِ{[790]} . هَذا إذا جَعلَ ما ذُكِرَ حكايةً عن كلِّ واحدٍ من الأفواجِ ، وأما إذا جُعلَ حكايةً عن الكلِّ ، فالنذيرُ إمَّا بمَعْنَى الجمعِ لأنَّه فعيلٌ ، أو مصدرٌ مقدرٌ بمضافٍ عام أي أهلُ نذيرٍ ، أو منعوتٌ بهِ فيتفقُ كلا طَرَفَي الخطابِ في الجمعيةِ ، ومن اعتبرَ الجمعيةَ بأحدِ الوجوهِ الثلاثةِ على التقديرِ الأولِ ولم يخصَّ اعتبارَهَا بالتقديرِ الأخيرِ ، فقد اشتَبَه عليهِ الشؤونُ واختلطَ بهِ الظنونُ ، وقد جُوِّزَ أنْ يكونَ الخطابُ من كلامِ الخزنةِ للكفارِ على إرادةِ القولِ ، على أنَّ مرادَهُم بالضَّلالِ ما كانُوا عليهِ في الدُّنيا ، أو هلاكهُم أو عقابُ ضلالِهِم تسميةً لهُ باسمِ سببِهِ ، وأن يكونَ من كلامِ الرسلِ للكفرةِ ، وقد حكَوه للخزنةِ فتأملْ وكُنْ على الحقِّ المبينِ .


[790]:الجريض: غصص الموت، والجرض بالتحريك الريق يغص به وفي قولهم حال الجريض دون القريض، قيل: الجريض الغصة والقريض الجرة وقيل: الجريض الغصص والقريض الشعر، قال الرياشي القريض والجريض يحدثان للإنسان عند الموت فالجريض تبلع الريق والقريض صوت الإنسان وقال زيد بن كثوة: إنه يقال عند كل أمر مقدور عليه فحيل دونه.