{ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ } أي : هو المنفرد بالحكم الجزائي ، وهو إثابة الطائعين ورحمتهم ، وتعذيب العاصين والتنكيل بهم . { وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ } أي : ترجعون إلى الدار ، التي بها تجري عليكم أحكام عذابه ورحمته ، فاكتسبوا في هذه الدار ، ما هو من أسباب رحمته من الطاعات ، وابتعدوا من أسباب عذابه ، وهي المعاصي .
وقوله : { يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ } أي : هو الحاكم المتصرف ، الذي يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، لا معقب لحكمه ، ولا يُسأل عما يفعل وهم يسألون ، فله الخلق والأمر ، مهما فعل فَعَدْلٌ ؛ لأنه المالك الذي لا يظلم مثقال ذرة ، كما جاء في الحديث الذي رواه أهل السنن : " إن الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه ، لعذبهم وهو غير ظالم لهم " {[22526]} . ولهذا قال تعالى : { يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ } أي : ترجعون يوم القيامة .
لما ذكر النشأة الآخرة أتبع ذكرها بذكر أهم ما تشتمل عليه وما أوجدت لأجله وهو الثواب والعقاب .
وابتدىء بذكر العقاب لأن الخطاب جار مع منكري البعث الذين حظهم فيه هو التعذيب . ومفعولا فعلي المشيئة محذوفان جرياً على غالب الاستعمال فيهما . والتقدير : من يشاء تعذيبه ومن يشاء رحمته . والفريقان معلومان من آيات الوعد والوعيد ؛ فأصحاب الوعد شاء الله رحمتهم وأصحاب الوعيد شاء تعذيبهم ، فمن الذين شاء تعذيبهم المشركون ومن الذين شاء رحمتهم المؤمنون ، والمقصود هنا هم الفريقان معاً كما دل عليه الخطاب العام في قوله { وإليه تقلبون } .
والقلب : الرجوع ، أي وإليه ترجعون .
وتقديم المجرور على عامله للاهتمام والتأكيد إذ ليس المقام للحصر إذ ليس ثمة اعتقاد مردود . وفي هذا إعادة إثبات وقوع البعث وتعريض بالوعيد .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
يعني: وإليه ترجعون بعد الموت يوم القيامة فيجزيكم بأعمالكم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ثم الله ينشئ النشأة الآخرة خلقه من بعد فنائهم، فيعذّب من يشاء منهم على ما أسلف من جرمه في أيام حياته، ويرحم من يشاء منهم ممن تاب وآمن وعمل صالحا.
"وَإلَيْهِ تُقْلَبُونَ" يقول: وإليه ترجعون وتردّون.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{يعذب من يشاء ويرحم من يشاء} يحتمل هذا في الدنيا {يعذب من يشاء} في الدنيا، أي يمتحنه، ويبتليه بالشدة والضيق {ويرحم من يشاء} أي يمتحنه بالسعة والرخاء، فيكون التعذيب كناية عن الشدة والضيق، والرحمة كناية عن السعة والرخاء، وهو كقوله: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون} [الأنبياء: 35].
لما ذكر النشأة الآخرة ذكر ما يكون فيه وهو تعذيب أهل التكذيب عدلا وحكمة، وإثابة أهل الإنابة فضلا ورحمة، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قدم التعذيب في الذكر على الرحمة مع أن رحمته سابقة كما قال عليه السلام حاكيا عنه «سبقت رحمتي غضبي» فنقول ذلك لوجهين أحدهما: أن السابق ذكر الكفار فذكر العذاب لسبق ذكر مستحقيه بحكم الإيعاد وعقبه بالرحمة، وكما ذكر، بعد إثبات الأصل الأول وهو التوحيد التهديد بقوله: {وإن تكذبوا فقد كذب أمم} وأهلكوا بالتكذيب كذلك ذكر بعد إثبات الأصل الآخر التهديد بذكر التعذيب، وذكر الرحمة وقع تبعا لئلا يكون العذاب مذكورا وحده وهذا يحقق قوله: (سبقت رحمتي غضبي) وذلك لأن الله حيث كان المقصود ذكر العذاب لم يمحضه في الذكر بل ذكر الرحمة معه.
المسألة الثانية: إذا كان ذكر هذا لتخويف العاصي وتفريح المؤمن فلو قال يعذب الكافر ويرحم المؤمن لكان أدخل في تحصيل المقصود وقوله: {يعذب من يشاء} لا يزجر الكافر لجواز أن يقول لعلي لا أكون ممن يشاء الله عذابه، فنقول: هذا أبلغ في التخويف، وذلك لأن الله أثبت بهذا إنفاذ مشيئته إذا أراد تعذيب شخص فلا يمنعه منه مانع، ثم كان من المعلوم للعباد بحكم الوعد والإيعاد أنه شاء تعذيب أهل العناد، فلزم منه الخوف التام بخلاف ما لو قال يعذب العاصي، فإنه لا يدل على كمال مشيئته، لأنه لا يفيد أنه لو شاء عذاب المؤمن لعذبه، فإذا لم يفد هذا فيقول الكافر إذا لم يحصل مراده في تلك الصورة يمكن أن يحصل في صورة أخرى... وفي هذا فائدة أخرى وهو الخوف العام والرجاء العام، لأن الأمن الكلي من الله يوجب الجراءة فيفضي إلى صيرورة المطيع عاصيا.
المسألة الثالثة: قال: {ثم إليه تقلبون} مع أن هذه المسألة قد سبق إثباتها وتقريرها فلم أعادها؟ فنقول لما ذكر الله التعذيب والرحمة وهما قد يكونان عاجلين، فقال تعالى: فإن تأخر عنكم ذلك فلا تظنوا أنه فات، فإن إليه إيابكم وعليه حسابكم وعنده يدخر ثوابكم وعقابكم. ولهذا قال بعدها {وما أنتم بمعجزين}...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{يُعَذّبُ} أي بعد النَّشأةِ الآخرةِ {مَن يَشَاء} أن يعذبه وهم المنكرون لها حَتماً {وَيَرْحَمُ مَن يَشَاء} أنْ يرحمَه وهم المصدِّقُون بها والجملةُ تكملة لما قبلها...
{وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} عند ذلك لا إلى غيرهِ فيفعلُ بكم ما يشاءُ من التَّعذيبِ والرَّحمةِ.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
من قدرة الله على كل شيء: تعذيبه لمن يشاء ورحمته لمن يشاء، وإليه وحده المآب؛ لا يعجزه أحد، ولا يمتنع عليه أحد... والعذاب والرحمة يتبعان مشيئة الله؛ من حيث أنه بين طريق الهدى وطريق الضلال؛ وخلق للإنسان من الاستعداد ما يختار به هذا أو ذاك، ويسر له الطريقين سواء، وهو بعد ذلك، وما يختار غير أن اتجاهه إلى الله ورغبته في هداه، ينتهيان به إلى عون الله له -كما كتب على نفسه- وإعراضه عن دلائل الهدى وصده عنها يؤديان به إلى الانقطاع والضلال. ومن ثم تكون الرحمة ويكون العذاب.
إن قلت: فلماذا يذكر الرحمة مع الكافرين بعد أن هددهم بالعذاب؟ نقول: لأنه رب يهدد عباده أولا بالعذاب ليرتدعوا وليؤمنوا، ثم يلوح لهم برحمته سبحانه ليرغبهم في طاعته ويلفتهم إلى الإيمان به...
وقول سبحانه: {وإليه تقلبون}... جاء بصيغة تقلبون الدالة على الغصب والانقياد عنوة ليقول لهم: مهما بلغ بكم الطغيان والجبروت والتعالي بنعم الله، فلا بد لكم من الرجوع إليه، والمثول بين يديه، فتذكروا هذه المسألة جيدا، حيث لا مهرب لكم منها.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ينقدح السؤال التالي: كيف يتحدث القرآن أوّلا عن العذاب والرحمة، ثمّ يتحدث عن معاد الناس إليه (واليه تقلبون)؟ في حين أن القضية على العكس من ذلك، ففي البداية يحضر الناس عند ساحته، ثمّ يشملهم العذاب أو الرحمة.. وربّما كان هذا هو السبب في أن يعتقد بعضهم أن العذاب والرحمة المذكورين هنا هما في هذه الدنيا. ونقول جواباً على مثل هذا السؤال: إن العذاب والرحمة بقرينة الآيات السابقة واللاحقة هما عذاب القيامة ورحمتها، وجملة (وإليه تقلبون) إشارة إلى الدليل على ذلك: أي: بما أنّ معادكم إليه وكتابكم وحسابكم لديه، فالعذاب والرحمة أيضاً بإرادته وتحت أمره!...
ولا يبعد أن يكون العذاب والرحمة في هذه الآية لهما معنى واسع، بحيث يشمل العذاب والرحمة في الدارين. كما يتّضح أنّ المراد بقول: (من يشاء) هو المشيئة الإلهية المقرونة بحكمته، أي كل من كان جديراً ومستحقاً لذلك.. فإن مشيئة الله ليست عبثاً، بل منسجمة مع الاستحقاق والجدارة!...
وجملة «تنقلبون» من مادة «القلب» ومعناها في الأصل: تغيير الشيء من صورة إلى صورة أُخرى، وحيث أن الإنسان في يوم القيامة يعود إلى هيئة الموجود الحي الكامل بعد أن كان تراباً لا روح فيه، فقد ورد هذا التعبير في إيجاده ثانيةً أيضاً...
ويمكن أن يكون هذا التعبير إشارة إلى هذه اللطيفة الدقيقة أيضاً وهي أن الإنسان يتبدل في الدار الأُخرى ويتغيّر تغيراً ينكشف باطنه به وتتجلى أسراره الخفية، وبهذا فهي تنسجم مع الآية (9) من سورة الطارق (يوم تبلى السرائر)...