{ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا } أي : جميع ما يكون ويقدره الله تعالى وما يوحيه{[26167]} فبأمره وإذنه وعلمه ، { إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } أي : إلى الناس رسولا يتلو عليهم آيات الله مبينات ، فإن الحاجة كانت ماسة إليه ؛ ولهذا قال : { رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا }
{ أمراً من عندنا } أي أعني بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا على مقتضى حكمتنا ، وهو مزيد تفخيم للأمر ويجوز أن يكون حالا من كل أوامر ، أو ضميره المستكن في { حكيم } لأنه موصوف ، وأن يكون المراد به مقابل النهي وقع مصدرا ل { يفرق } أو لفعله مضمرا من حيث أن الفرق به ، أو حالا من أحد ضميري { أنزلناه } بمعنى آمرين أو مأمورا . { إنا كنا مرسلين } .
وانتصب { أمراً من عندنا } على الحال من { أمر حكيم } .
وإعادة كلمة { أمراً } لتفخيم شأنه ، وإلا فإن المقصود الأصلي هو قوله : { من عندنا } ، فكان مقتضى الظاهر أن يقع { من عندنا } صفةً ل { أمر حكيم } فخولف ذلك لهذه النكتة ، أي أمراً عظيماً فخماً إذا وصف ب { حكيم } . ثم بكونه من عند الله تشريفاً له بهذه العندية ، وينصرف هذا التشريف والتعظيم ابتداءً وبالتعيين إلى القرآن إذ كان بنزوله في تلك الليلة تشريفها وجعلها وقتاً لقضاء الأمور الشريفة الحكيمة . وجملة { إنا كنا مرسلين } معترضة وحرف ( إنّ ) فيها مثل ما وقع في { إنا كنا منذرين } .
واعلم أن مفتتح السورة يجوز أن يكون كلاماً موجهاً إلى المشركين ابتداء لفتح بصائرهم إلى شرف القرآن وما فيه من النفع للناس ليكفُّوا عن الصدّ عنه ولهذا وردت الحروف المقطعة في أوَلها المقصودُ منها التحدّي بالإعجاز ، واشتملت تلك الجمل الثلاث على حرف التأكيد ، ويكون إعلام الرّسول صلى الله عليه وسلم بهذه المزايا حاصلاً تبعاً إن كان لم يسبق إعلامه بذلك بما سبق من آي القرآن أو بوحي غير القرآن . ويجوز أن يكون موجهاً إلى الرّسول صلى الله عليه وسلم أصالة ويكون علم المشركين بما يحتوي عليه حاصلاً تبعاً بطريق التعريض ، ويكون التوكيد منظوراً فيه إلى الغرض التعريضي .
ومفعول { مرسلين } محذوف دل عليه مادة اسم الفاعل ، أي مرسلين الرسل .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أمرا من عندنا}: كان أمرا منا.
{إنا كنا مرسلين} يعني منزلين هذا القرآن...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"أمْرا مِنْ عِنْدِنا إنّا كُنّا مُرْسِلِينَ" يقول تعالى ذكره: في هذه الليلة المباركة يُفْرق كلّ أمر حكيم، أمرا من عندنا.
اختلف أهل العربية في وجه نصب قوله: أمْرا فقال بعض نحويي الكوفة: نصب على إنا أنزلناه أمرا ورحمة على الحال، وقال بعض نحويي البصرة: نصب على معنى يفرق كل أمر فرقا وأمرا.
"إنّا كُنّا مُرْسِلِينَ": إنا كنا مرسلي رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى عبادنا.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَا} نصب على الاختصاص، جعل كل أمر جزلاً فخماً بأن وصفه بالحكيم، ثم زاده جزالة وكسبه فخامة بأن قال: أعني بهذا الأمر أمراً حاصلاً من عندنا كائناً من لدنا، كما اقتضاه علمنا وتدبيرنا.
ويجوز أن يراد به الأمر الذي هو ضد النهي.
ثم إما أن يوضع موضع فرقانا الذي هو مصدر يفرق؛ لأنّ معنى الأمر والفرقان واحد، من حيث إنه إذا حكم بالشيء وكتبه فقد أمر به وأوجبه. أو يكون حالاً من أحد الضميرين في أنزلناه: إما من ضمير الفاعل، أي: أنزلناه آمرين أمراً. أو من ضمير المفعول أي أنزلناه في حال كونه أمراً من عندنا بما يجب أن يفعل...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان هذا مفهماً لأمور لا حصر لها، بين أنه لا كلفة عليه سبحانه فيه، ولا تجدد عنده في وقت من الأوقات لشيء لم يكن قبل إلا تعليق القدرة المقدرة على وفق الإرادة، فقال مؤكداً لفخامة ما تضمنه وصفه بأنه حكيم: {أمراً} أي حال كون هذا كله مع انتشاره وعدم انحصاره أمراً عظيماً جداً واحداً لا تعدد فيه دبرناه في الأزل وقررناه وأتقناه واخترناه ليوجد في أوقاته بتقدير، ويبرز على ما له من الإحكام في أحيانه في أقل [من-] لمح البصر، ودل على أنه ليس مستغرقاً لما تحت قدرته سبحانه بإثبات الجار فقال: {من عندنا} أي من العاديات والخوارق وما وراءها.
ولما بين [حال-] الفرقان الذي من جملته الإنذار، علله بقوله مؤكداً لما لهم من الإنكار: {إنا} أي بما لنا من أوصاف الكمال وكمال العظمة.
{كنا} أي أزلاً وأبداً. {مرسلين} أي لنا صفة الإرسال بالقدرة عليها في [كل-] حين والإرسال لمصالح العباد، لا بد فيه من الفرقان بالبشارة والنذارة وغيرهما حتى لا يكون لبس، فلا يكون لأحد على الله حجة بعد الرسل، وهذا الكلام المنتظم والقول الملتحم بعضه ببعض، المتراصف أجمل رصف في وصف ليلة الإنزال دال على أنه لم تنزل صحيفة ولا كتاب إلا في هذه الليلة، فيدل على أنها ليلة القدر للأحاديث الواردة في أن الكتب كلها نزلت فيها كما بينته في كتابي "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور "وكذا قوله في سورة القدر {تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر} فإن الوحي الذي [هو-] مجمع ذلك هو روح الأمور الحكيمة.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وانتصب {أمراً من عندنا} على الحال من {أمر حكيم}.
وإعادة كلمة {أمراً} لتفخيم شأنه، وإلا فإن المقصود الأصلي هو قوله: {من عندنا}، فكان مقتضى الظاهر أن يقع {من عندنا} صفةً ل {أمر حكيم} فخولف ذلك لهذه النكتة، أي أمراً عظيماً فخماً إذا وصف ب {حكيم}. ثم بكونه من عند الله تشريفاً له بهذه العندية، وينصرف هذا التشريف والتعظيم ابتداءً وبالتعيين إلى القرآن إذ كان بنزوله في تلك الليلة تشريفها وجعلها وقتاً لقضاء الأمور الشريفة الحكيمة. وجملة {إنا كنا مرسلين} معترضة وحرف (إنّ) فيها مثل ما وقع في {إنا كنا منذرين}.