وكذلك مَنْ كفر برسول فقد كفر بجميع الرسل ، بل بالرسول الذي يزعم أنه به مؤمن ، ولهذا قال : { أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا } وذلك لئلا يتوهم أن مرتبتهم متوسطة بين الإيمان والكفر .
ووجه كونهم كافرين - حتى بما زعموا الإيمان به- أن كل دليل دلهم على الإيمان بمن آمنوا به موجود هو أو مثله أو ما فوقه للنبي الذي كفروا به ، وكل شبهة يزعمون أنهم يقدحون بها في النبي الذي كفروا به موجود مثلها أو أعظم منها فيمن آمنوا به .
فلم يبق بعد ذلك إلا التشهي والهوى ومجرد الدعوى التي يمكن كل أحد أن يقابلها بمثلها ، ولما ذكر أن هؤلاء هم الكافرون حقا ذكر عقابا شاملا لهم ولكل كافر فقال : { وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا } كما تكبروا عن الإيمان بالله ، أهانهم بالعذاب الأليم المخزي .
ثم أخبر تعالى عنهم ، فقال : { أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا } أي : كفرهم محقق لا محالة بمن ادعوا الإيمان به ؛ لأنه ليس شرعيًّا ، إذ لو كانوا مؤمنين به لكونه رسول الله لآمنوا بنظيره ، وبمن هو أوضح دليلا وأقوى برهانًا منه ، لو نظروا حق النظر في نبوته .
وقوله : { وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } أي : كما استهانوا بمن كفروا به إما لعدم نظرهم فيما جاءهم به من الله ، وإعراضهم عنه وإقبالهم على جمع حطام الدنيا مما لا ضرورة بهم إليه ، وإما بكفرهم به بعد علمهم بنبوته ، كما كان يفعله كثير من أحبار اليهود في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث حسدوه على ما آتاه الله من النبوة العظيمة ، وخالفوه وكذبوه وعادوه وقاتلوه ، فسلط الله عليهم الذل الدنيوي الموصول بالذل الأخروي : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ } [ البقرة : 61 ] في الدنيا والآخرة .
{ إِنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلََئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مّهِيناً } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : إنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ باللّهِ وَرُسُلِهِ من اليهود والنصارى ، وَيُرِيدُون أنْ يُفَرّقُوا بينَ اللّهِ وَرُسُلِهِ بأن يكذّبوا رسل الله الذين أرسلهم إلى خلقه بوحيه ، ويزعمون أنهم افتروا على ربهم ، وذلك هو معنى إرادتهم التفريقَ بين الله ورسله ، بنحلتهم إياهم الكذب والفرية على الله ، وادّعائهم عليهم الأباطيل . وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ يعني أنهم يقولون : نصدّق بهذا ونكذّب بهذا ، كما فعلت اليهود من تكذيبهم عيسى ومحمدا صلى الله عليهما وسلم وتصديقهم بموسى وسائر الأنبياء قَبله بزعمهم ، وكما فعلت النصارى من تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم وتصديقهم بعيسى وسائر الأنبياء قَبله بزعمهم . وَيُرِيدُونَ أنَ يَتّخِذُوا بينَ ذَلِكَ سَبِيلاً يقول : ويريد المفرقون بين الله ورسله ، الزاعمون أنهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض ، أن يتخذوا بين أضعاف قولهم : نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعض ، سبيلاً : يعني طريقا إلى الضلالة التي أحدثوها والبدعة التي ابتدعوها ، يدعون أهل الجهر من الناس إليه . فقال جلّ ثناؤه لعباده ، منبها لهم على ضلالتهم وكفرهم : أُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ حَقّا يقول : أيها الناس هؤلاء الذين وصفت لكم صفتهم هم أهل الكفربي ، المستحقون عذابي والخلودَ في ناري حقّا ، فاستيقنوا ذلك ، ولا يشككنكم في أمرهم انتحالهم الكذب ودعواهم أنهم يقرّون بما زعموا أنهم به مقرون من الكتب والرسل ، فإنهم في دعواهم ما ادّعوا من ذلك كَذَبةٌ . وذلك أن المؤمن بالكتب والرسل ، هو المصدّق ببعض ذلك وكذّب ببعض ، فهو لنبوّة من كذّب ببعض ما جاء به جاحد ، ومن جحد نبوّة نبيّ فهو به مكذّب . وهؤلاء الذين جحدوا نبوّة بعض الأنبياء وزعموا أنهم مصدّقون ببعض ، مكذّبون من زعموا أنهم به مؤمنون ، لتكذيبهم ببعض ما جاءهم به من عند ربهم ، فهم بالله وبرسله الذين يزعمون أنهم بهم مصدّقون ، والذين يزعمون أنهم بهم مكذّبون كافرون ، فهم الجاحدون وحدانية الله ونبوّة أنبيائه ، حقّ الجحود المكذّبون بذلك حقّ التكذيب ، فاحذروا أن تغترّوا بهم وببدعتهم ، فإنا قد أعتدنا لهم عذابا مهينا .
وأما قوله : وَأعْتَدْنا للكافِرِينَ عَذَابا مُهِينا فإنه يعني : وأعتدنا لمن جحد بالله ورسوله جحود هؤلاء الذين وصفت لكم أيها الناس أمرهم من أهل الكتاب ولغيرهم من سائر أجناس الكفار عذابا في الاَخرة مهينا ، يعني : يهين من عذّب به بخلوده فيه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ باللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أنْ يُفَرّقُوا بينَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أنْ يَتّخِذُوا بينَ ذَلكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ حَقّا وأعْتَدْنا للْكافِرِينَ عَذَابا مُهِينا أولئك أعداء الله اليهود والنصارى ، آمنت اليهود بالتوراة وموسى وكفروا بالإنجيل وعيسى وآمنت النصارى بالإنجيل وعيسى وكفروا بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم ، فاتخذوا اليهودية والنصرانية ، وهما بدعتان ليستا من الله ، وتركوا الإسلام وهو دين الله الذي بعث به رسله .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : إنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ باللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أنْ يُفَرّقُوا بينَ اللّهِ وَرُسُلِهِ يقولون : محمد ليس برسولٍ لله وتقول اليهود : عيسى ليس برسولٍ لله ، فقد فرّقوا بين الله وبين رسله . وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ فهؤلاء يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قوله : إنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ باللّهِ وَرُسُلِهِ . . . إلى قوله : بينَ ذَلِكَ سَبِيلاً قال : اليهود والنصارى : آمنت اليهود بعزير وكفرت بعيسى ، وآمنت النصارى بعيسى وكفرت بعُزَير ، وكانوا يؤمنون بالنبيّ ويكفرون بالاَخر . وَيُرِيدُونَ أنْ يَتّخِذُوا بينَ ذَلِكَ سَبِيلاً قال : دِينا يدينون به الله .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 150]
إنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ باللّهِ وَرُسُلِهِ" من اليهود والنصارى، "وَيُرِيدُون أنْ يُفَرّقُوا بينَ اللّهِ وَرُسُلِهِ" بأن يكذّبوا رسل الله الذين أرسلهم إلى خلقه بوحيه، ويزعمون أنهم افتروا على ربهم، وذلك هو معنى إرادتهم التفريقَ بين الله ورسله، بنحلتهم إياهم الكذب والفرية على الله، وادّعائهم عليهم الأباطيل. "وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ": نصدّق بهذا ونكذّب بهذا، كما فعلت اليهود من تكذيبهم عيسى ومحمدا صلى الله عليهما وسلم وتصديقهم بموسى وسائر الأنبياء قَبله بزعمهم، وكما فعلت النصارى من تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم وتصديقهم بعيسى وسائر الأنبياء قَبله بزعمهم. "وَيُرِيدُونَ أنَ يَتّخِذُوا بينَ ذَلِكَ سَبِيلاً": ويريد المفرقون بين الله ورسله، الزاعمون أنهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، أن يتخذوا بين أضعاف قولهم: نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعض، "سبيلاً": طريقا إلى الضلالة التي أحدثوها والبدعة التي ابتدعوها، يدعون أهل الجهل من الناس إليه. فقال جلّ ثناؤه لعباده، منبها لهم على ضلالتهم وكفرهم: "أُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ حَقّا": أيها الناس هؤلاء الذين وصفت لكم صفتهم هم أهل الكفر بي، المستحقون عذابي والخلودَ في ناري حقّا، فاستيقنوا ذلك، ولا يشككنكم في أمرهم انتحالهم الكذب ودعواهم أنهم يقرّون بما زعموا أنهم به مقرون من الكتب والرسل، فإنهم في دعواهم ما ادّعوا من ذلك كَذَبةٌ. وذلك أن المؤمن بالكتب والرسل، هو المصدّق ببعض ذلك وكذّب ببعض، فهو لنبوّة من كذّب ببعض ما جاء به جاحد، ومن جحد نبوّة نبيّ فهو به مكذّب. وهؤلاء الذين جحدوا نبوّة بعض الأنبياء وزعموا أنهم مصدّقون ببعض، مكذّبون من زعموا أنهم به مؤمنون، لتكذيبهم ببعض ما جاءهم به من عند ربهم، فهم بالله وبرسله الذين يزعمون أنهم بهم مصدّقون، والذين يزعمون أنهم بهم مكذّبون كافرون، فهم الجاحدون وحدانية الله ونبوّة أنبيائه، حقّ الجحود المكذّبون بذلك حقّ التكذيب، فاحذروا أن تغترّوا بهم وببدعتهم، فإنا قد أعتدنا لهم عذابا مهينا.
"وَأعْتَدْنا للكافِرِينَ عَذَابا مُهِينا": وأعتدنا لمن جحد بالله ورسوله جحود هؤلاء الذين وصفت لكم أيها الناس أمرهم من أهل الكتاب ولغيرهم من سائر أجناس الكفار عذابا في الاَخرة "مهينا": يهين من عذّب به بخلوده فيه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{أولئك هم الكافرون حقا} يحتمل وجهين: أحدهما: الذين حق عليهم الكفر. والثاني: يكفرون ببعض الرسل: إنهم، وإن كفروا ببعض الرسل، فقد حق عليهم الكفر بالله تعالى لأن الكفر بواحد من الرسل كفر بالرسل جميعا.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قوله:"واعتدنا" معناه أعددنا للكافرين يعني الجاحدين الذين ذكرهم ولغيرهم من اصناف الكفار (عذابا) في الاخرة "مهينا "يهينهم ويذلهم مخلدون في ذلك.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 150]
أخبر عنهم أنهم أضافوا إلى قبيح كفرهم ما عُدَّ من ذميم فعلهم، ثم بَيَّنَ أنه ضاعف من عذابهم ما كان جزاء جرمهم، لِتَعْلَمَ أنه لأهل الفساد بالمرصاد.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(أولئك هم الكافرون حقا) إنما حقق كفرهم، ليعلم أنهم كفار [مطلقاً] لئلا يظن ظان أنهم لما آمنوا بالله وبعض الرسل لا يكون كفرهم مطلقا.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وقد أخطأوا، فإنه لا واسطة بين الكفر والإيمان ولذلك قال: {أُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون حَقّاً} أي هم الكاملون في الكفر. و (حقاً) تأكيد لمضمون الجملة، كقولك: هو عبد الله حقاً، أي حق ذلك حقاً، وهو كونهم كاملين في الكفر، أو هو صفة لمصدر الكافرين، أي هم الذين كفروا كفراً حقاً ثابتاً يقيناً لا شك فيه.
{أولئك هم الكافرون حقا} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في خبر {إن} قولان: أحدهما: أنه محذوف، كأنه قيل جمعوا المخازي. والثاني: هو قوله {أولئك هم الكافرون} والأول أحسن لوجهين: أحدهما: أنه أبلغ لأنه إذا حذف الجواب ذهب الوهم كل مذهب من العيب، وإذا ذكر بقي مقتصرا على المذكور، والثاني: أنه رأس الآية، والأحسن أن لا يكون الخبر منفصلا عن المبتدأ.
المسألة الثانية: أنهم إنما كانوا كافرين حقا لوجهين: الأول: أن الدليل الذي يدل على نبوة البعض ليس إلا المعجز، وإذا كان دليلا على النبوة لزم القطع بأنه حيث حصل حصلت النبوة فإن جوزنا في بعض المواضع حصول المعجز بدون الصدق تعذر الاستدلال به على الصدق، وحينئذ يلزم الكفر بجميع الأنبياء. فثبت أن من لم يقبل نبوة أحد منهم لزمه الكفر بجميعهم.
فإن قيل: هب أنه يلزمهم الكفر بكل الأنبياء، ولكن ليس إذا توجه بعض الإلزامات على الإنسان لزم أن يكون ذلك الإنسان قائلا به، فإلزام الكفر غير، والتزام الكفر غير، والقوم لما لم يلتزموا ذلك فيكف يقضى عليهم بالكفر.
قلنا: الإلزام إذا كان خفيا بحيث يحتاج فيه إلى فكر وتأمل كان الأمر فيه كما ذكرتم، أما إذا كان جليا واضحا لم يبق بين الإلزام والالتزام فرق، والثاني: وهو أن قبول بعض الأنبياء إن كان لأجل الانقياد لطاعة الله تعالى وحكمه وجب قبول الكل، وإن كان لطلب الرياسة كان ذلك في الحقيقة كفرا بكل الأنبياء.
المسألة الثالثة: في قوله {حقا} وجهان: والثاني: أن يكون التقدير: أولئك هم الكافرون كفرا حقا. طعن الواحدي فيه وقال: الكفر لا يكون حقا بوجه من الوجوه.
والجواب أن المراد بهذا الحق الكامل، والمعنى أولئك هم الكافرون كفرا كاملا ثابتا حقا يقينا.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
قوله: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} أي: كما استهانوا بمن كفروا به إما لعدم نظرهم فيما جاءهم به من الله، وإعراضهم عنه وإقبالهم على جمع حطام الدنيا مما لا ضرورة بهم إليه، وإما بكفرهم به بعد علمهم بنبوته، كما كان يفعله كثير من أحبار اليهود في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث حسدوه على ما آتاه الله من النبوة العظيمة، وخالفوه وكذبوه وعادوه وقاتلوه، فسلط الله عليهم الذل الدنيوي الموصول بالذل الأخروي: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [البقرة: 61] في الدنيا والآخرة.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
أما سبب هذا الحكم الشديد، وما ترتب عليه من الوعيد، فهو أن من يؤمن بالله أي بأن للعالم خالقا ولا يؤمن بوحيه له من الشكر سبيلا، لا يعرف كيف يعبده على الوجه الذي يرضيه، ولا كيف يزكي نفسه التزكية التي يستحق بها دار كرامته، ولذلك نرى هؤلاء الكافرين بالرسل ماديين لا تهمهم إلا شهواتهم، وأوسعهم علما وأعلاهم تربية من يراعي في أعماله ما يسمونه الشرف باجتناب ما هو مذموم بين الطبقة التي يعيش فيها أو اجتناب إظهاره فقط. وأما الذين يقولون إنهم يؤمنون ببعض الرسل ويكفرون ببعض كأهل الكتاب فلا يعتد بقولهم ولا يعد ما هم عليه من التعصب لبعضهم وحفظ بعض المأثور عنهم من الأحكام والمواعظ إيمانا صحيحا، وإنما تلك تقاليد اعتادوها، وعصبية جنسية أو سياسية جروا عليها، وإنما الإيمان بالرسالة والمراد منها وصفات الرسل ووظائفهم وتأثير هدايتهم. ومن فهم هذا لا يمكن أن يؤمن بموسى وعيسى ويكفر بمحمد عليهم الصلاة والسلام. فإن صفات الرسالة قد ظهرت في محمد صلى الله عليه وسلم بأكمل مما ظهرت في غيره، والهداية به كانت أكبر من الهداية بمن قبله، وحجته كانت أنهض، وطرق العلم بها أقوى، والشبهة عليها أضعف، فقد نشأ موسى عليه السلام في بيت الملك، ومهد الشرائع والعلم، ونشأ عيسى عليه السلام في أمة ذات شريعة، ودولة ذات علم ومدنية، وبلاد انتشرت فيها كتب الآداب والحكمة، فلا يظهر البرهان على كون ما جاء به كل منهما وحيا إليها لا كسب له فيه كما يظهر البرهان على ما جاء به محمد وهو أمي الذي نشأ بين الأميين، ونقل كتابه وأصول دينه بالتواتر القطعي والأسانيد المتصلة دون دينهما. وأما جعل النصارى نبيهم إلها في الشكل الذي أظهره فيه الملك قسطنطين الوثني وخلفه من الرومانيين فذلك طور آخر لم يعرفه المسيح وحواريه عليه السلام، وتشكيل لدينهم بشكل من أشكال وثنيتهم السابقة مؤلف من تقاليد وثنيي الهند والصين والمصريين والأوربيين وغيرهم كما بين ذلك علماء أوروبة الأحرار.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قوله: {أولئك هم الكافرون حقاً} الجملة خبر إنّ والإشارة إلى أصحاب تلك الصلة الماضية، وموقع الإشارة هنا لقصد التنبيه على أنّ المشار إليهم لاستحضارهم بتلك الأوصاف أحرياء بما سيحكم عليهم من الحكم المعاقِب لاسم الإشارة.
وأفاد تعريف جزأي الجملة والإتيانُ بضمير الفصل تأكيدَ قصرِ صفة الكفر عليهم، وهو قصر ادّعائي مجازيّ بتنزيل كفر غيرهم في جانب كفرهم منزلة العدم، كقوله تعالى في المنافقين: {هم العدوّ} [المنافقون: 4]. ومثل هذا القصر يدلّ على كمال الموصوف في تلك الصفة المقصورة.
ووجه هذه المبالغة: أنّ كفرهم قد اشتمل على أحوال عديدة من الكفر، وعلى سفالة في الخُلُق، أو سفاهة في الرأي بمجموع ما حكي عنهم من تلك الصِلات، فإنّ كلّ خصلة منها إذا انفردت هي كفر، فكيف بها إذا اجتمعت.
و {حقّا} مصدر مؤكِّد لمضمون الجملة التي قبله، أي حُقَّهم حقّا أيّها السامع بالِغين النهاية في الكفر، ونظير هذا قولهم: (جِدّاً). والتوكيد في مثل هذا لمضمون الجملة التي قبله على ما أفادته الجملة، وليس هو لرفع المجاز، فهو تأكيد لما أفادته الجملة من الدلالة على معنى النهاية لأنّ القَصْر مستعمل في ذلك المعنى، ولم يقصد بالتوكيد أن يصير القصر حقيقيّاً لظهور أنّ ذلك لا يستقيم، فقول بعض النحاة، في المصدر المؤكّد لمضمون الجملة: إنَّه يفيد رفع احتمال المجاز، بناء منهم على الغالب في مفاد التأكيد.
{وأعتدنا} معناه هيّأنا وقدّرنا، والتاء في {أعتدنا} بدل من الدال عند كثير من علماء اللغة، وقال كثير منهم: التاء أصلية، وأنّه بناء على حدة هو غير بناء عَدّ. وقال بعضهم: إنّ عَتد هو الأصل وأنّ عدّ أدغمّت منه التاء في الدال، وقد ورد البناءان كثيراً في كلامهم وفي القرآن.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
القرآن الكريم يهدد هؤلاء وأمثالهم بأنّهم يلقون الذل والهوان، حيث تقول الآية: (واعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً) وقد يكون وصف العذاب في هذه الآية ب «المهين» سببه أنّ هؤلاء بقبولهم بعض الأنبياء ورفضهم الإِيمان بالبعض الآخر منهم، إِنّما يوجّهون الإِهانة بحق عدد من الأنبياء، لذلك يجب أن ينال هؤلاء عذاباً مهيناً يتناسب واهانتهم تلك...
وواضح أنّ وصف العذاب بواحد من الصفات يتناسب مع نوع الذنب، ولذلك فقد ورد في كثير من الآيات القرآنية أنّ عقاب الظالمين هو العذاب الأليم، لأنّه يتناسب وألم الظلم الذي يمارسه الظالم على المظلوم، وهكذا بالنسبة للأنواع الأخرى من العذاب، وقد قصدنا بهذا الشرح تقريب مسألة العذاب إِلى الأذهان، علماً بأنّ العذاب الأخروي شيء لا يمكن مقارنته بما هو موجود من عذاب في حياتنا الدنيوية هذه.