قوله تعالى : { فحملته } ، قيل : إن جبريل رفع درعها فنفخ في جيبه فحملت حين لبست . وقيل : مد جيب درعها بأصبعه ثم نفخ في الجيب . وقيل : نفخ في كم قميصها . وقيل : في فيها . وقيل : نفخ جبريل عليه السلام نفخاً من بعيد فوصل الريح إليها فحملت بعيسى في الحال ، { فانتبذت به } ، أي تنحت بالحمل وانفردت ، { مكاناً قصياً } ، بعيداً من أهلها . قال ابن عباس رضي الله عنهما : أقصى الوادي ، وهو وادي بيت لحم ، فراراً من قومها أن يعيروها بولادتها من غير زوج . واختلفوا في مدة حملها ووقت وضعها ، فقال ابن عباس رضي الله عنهما : كان الحمل والولادة في ساعة واحدة . وقيل : كان مدة حملها تسعة أشهر كحمل سائر النساء . وقيل : كان مدة حلمها ثمانية أشهر ، وكان ذلك آية أخرى لأنه لا يعيش ولد يولد لثمانية أشهر ، وولد عيسى لهذه المدة وعاش . وقيل : ولدت لستة أشهر . وقال مقاتل بن سليمان : حملته مريم في ساعة ، وصور في ساعة ، ووضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها ، وهي بنت عشر سنين ، وكانت قد حاضت حيضتين قبل أن تحمل بعيسى .
{ 22 - 26 ْ } { فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ْ }
أي : لما حملت بعيسى عليه السلام ، خافت من الفضيحة ، فتباعدت عن الناس { مَكَانًا قَصِيًّا ْ } فلما قرب ولادها ،
يقول تعالى مخبرًا عن مريم أنها لما قال لها جبريل عن الله تعالى ما قال ، أنها استسلمت لقضاء الله تعالى{[18744]} فذكر غير واحد من علماء السلف أن الملك - وهو جبريل عليه السلام - عند ذلك نفخ في جيب درعها ، فنزلت النفخة حتى ولجت في الفرج ، فحملت بالولد بإذن الله تعالى . فلما حملت به ضاقت ذرعًا به{[18745]} ولم تدر ماذا تقول{[18746]} للناس ، فإنها تعلم أن الناس لا يصدقونها فيما تخبرهم به ، غير أنها أفشت سرها وذكرت أمرها لأختها امرأة زكريا . وذلك أن زكريا عليه السلام ، كان قد سأل الله الولد ، فأجيب إلى ذلك ، فحملت امرأته ، فدخلت عليها مريم فقامت إليها فاعتنقتها ، وقالت : أشعرت يا مريم أني حبلى ؟ فقالت لها مريم : وهل علمت أيضًا أني حبلى ؟ وذكرت لها شأنها وما كان من خبرها وكانوا بيت إيمان وتصديق ، ثم كانت امرأة زكريا بعد ذلك إذا واجهت{[18747]} مريم تجد الذي في جوفها{[18748]} يسجد للذي في بطن مريم ، أي : يعظمه ويخضع له ، فإن السجود كان في ملتهم عند السلام مشروعًا ، كما سجد ليوسف أبواه وإخوته ، وكما أمر الله الملائكة أن تسجد{[18749]} لآدم ، عليه السلام ، ولكن حرم في ملتنا هذه تكميلا لتعظيم جلال الرب تعالى .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين قال : قرئ على الحارث بن مسكين وأنا أسمع ، قال : أخبرنا عبد الرحمن بن القاسم قال : قال مالك رحمه الله : بلغني أن عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا ابنا خالة ، وكان حملهما جميعا معا ، فبلغني أن أم يحيى قالت لمريم : إني أرى أن ما في بطني يسجد لما في بطنك . قال مالك : أرى ذلك لتفضيل عيسى عليه السلام ؛ لأن الله جعله يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص .
ثم اختلف المفسرون في مدة حمل عيسى عليه السلام فالمشهور عن الجمهور أنها حملت به تسعة أشهر . وقال عكرمة : ثمانية أشهر - قال : ولهذا لا يعيش ولد لثمانية أشهر .
وقال ابن جُرَيْج : أخبرني المغيرة بن عثمان{[18750]} بن عبد الله الثقفي ، سمع ابن عباس وسئل عن حَبَل مريم ، قال : لم يكن إلا أن حملت فوضعت{[18751]} .
وهذا غريب ، وكأنه أخذه من ظاهر قوله تعالى : { فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ } فالفاء وإن كانت للتعقيب ، ولكن تعقيب{[18752]} كل شيء بحسبه ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا } [ المؤمنون : 12 - 14 ] فهذه الفاء للتعقيب بحسبها . وقد ثبت في الصحيحين : أن بين كل صفتين أربعين يومًا{[18753]} وقال تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرَّةً } [ الحج : 63 ] فالمشهور الظاهر - والله على كل شيء قدير - أنها حملت به كما تحمل النساء بأولادهن ؛ ولهذا لما ظهرت مخايل الحمل عليها وكان معها في المسجد رجل صالح من قراباتها يخدم معها البيت المقدس ، يقال له : يوسف النجار ، فلما رأى ثقل بطنها وكبره ، أنكر ذلك من أمرها ، ثم صرفه ما{[18754]} يعلم من براءتها ونزاهتها ودينها وعبادتها ، ثم تأمّل ما هي فيه ، فجعل أمرها يجوس في فكره ، لا يستطيع صرفه عن نفسه ، فحمل نفسه على أن عرض لها في القول ، فقال : يا مريم ، إني سائلك عن أمر فلا تعجلي عليّ . قالت : وما هو ؟ قال : هل يكون قط شجر{[18755]} من غير حبّ ؟ وهل يكون زرع من غير بذر ؟ وهل يكون ولد من غير أب ؟ فقالت : نعم - فهمت{[18756]} ما أشار إليه - أما قولك : " هل يكون شجر من غير حب وزرع من غير بذر ؟ " فإن الله قد خلق الشجر والزرع أول ما خلقهما من غير حب ، ولا بذر " وهل خلق يكون من غير أب ؟ " {[18757]} فإن الله قد خلق آدم من غير أب ولا أم . فصدقها ، وسلَّم لها حالها .
ولما استشعرت مريم من قومها اتهامها بالريبة ، انتبذت منهم مكانًا قصيًّا ، أي : قاصيًا منهم بعيدًا عنهم ؛ لئلا تراهم ولا يروها .
قال محمد بن إسحاق : فلما حملت به وملأت قلتها{[18758]} ورجعت ، استمسك عنها الدم وأصابها ما يصيب الحامل على الولد من الوصب والترحم وتغير اللون ، حتى فَطَرَ لسانها ، فما دخل على أهل بيت ما دخل على آل زكريا ، وشاع الحديث في بني إسرائيل ، فقالوا : " إنما صاحبها يوسف " ، ولم يكن معها في الكنيسة غيره ، وتوارت من الناس ، واتخذت من دونهم حجابًا ، فلا{[18759]} يراها أحد ولا تراه .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً * فَأَجَآءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىَ جِذْعِ النّخْلَةِ قَالَتْ يَلَيْتَنِي مِتّ قَبْلَ هََذَا وَكُنتُ نَسْياً مّنسِيّاً } .
وفي هذا الكلام متروك تُرِك ذكره استغناء بدلالة ما ذكر منه عنه فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا بغلام فحَمَلَتْهُ فانْتَبَذَتْ بِهِ مَكانا قَصيّا وبذلك جاء تأويل أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سهل ، قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : ثني عبد الصمد بن معقِل ابن أخي وهب بن منبه ، قال : سمعت وهبا قال : لما أرسل الله جبريل إلى مريم تمثّل لها بشرا سويا فقالت له : إنّي أعُوذُ بالرّحْمَنِ مِنْكَ إنْ كُنْتَ تَقِيّا ثم نفخ في جيب درعها حتى وصلت النفخة إلى الرحم فاشتملت .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه اليماني ، قال : لما قال ذلك ، يعني لما قال جبريل قالَ كذلكِ قالَ رَبّكَ هُوَ عَليّ هَيّنٌ . . . الاَية استسلمت لأمر الله ، فنفخ في جيبها ثم انصرف عنها .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : طرحَتْ عليها جلبابها لما قال جبريل ذلك لها ، فأخذ جبريل بكميها ، فنفخ في جيب درعها ، وكان مشقوقا من قُدامها ، فدخلت النفخة صدرها ، فحملت ، فأتتها أختها امرأة زكريا ليلة تزورها فلما فتحت لها الباب التزمتها ، فقالت امرأة زكريا : يا مريم أشعرت أني حبلى ، قالت مريم : أشعرت أيضا أني حُبلى ، قالت امرأة زكريا : إني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك ، فذلك قوله مُصَدّقا بكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : يقولون : إنه إنما نفخ في جيب درعها وكمها .
وقوله : فانْتَبَذَتْ بِهِ مَكانا قَصِيّا يقول : فاعتزلت بالذي حملته ، وهو عيسى ، وتنحّت به عن الناس مكانا قَصِيا يقول : مكانا نائيا قاصيا عن الناس ، يقال : هو بمكان قاص ، وقصيّ بمعنى واحد ، كما قال الراجز :
لَتَقْعُدِنّ مَقْعَدَ القَصِيّ *** مِنّي ذي القاذُورَةِ المَقْلِيّ
يقال منه : قصا المكان يقصو قصوا : إذا تباعد ، وأقصيت الشيء : إذا أبعدته وأخّرته .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : فانْتَبَذَتْ بِهِ مَكانا قَصِيّا قال : مكانا نائيا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : مَكانا قَصِيّا قال : قاصيا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : لما بلغ أن تضع مريم ، خرجت إلى جانب المحراب الشرقي منه فأتت أقصاه .
وروي أن جبريل عيله السلام حين قاولها هذه المقاولة «نفخ في جيب درعها » فسرت النفخة بإذن الله حتى حملت منه قاله وهب بن منبه وغيره ، وقال ابن جريح : نفخ في جيب درعها وكمها وقال أبي بن كعب «دخل الروح المنفوخ من فمها » فذلك قوله تعالى : { فحملته } أي حملت الغلام . ويذكر أنها كانت بنت ثلاث عشرة سنة ، فلما أحست بذلك وخافت تعنيف الناس وأن يظن بها الشر { انتبذت به } أي تنحت { مكاناً } بعيداً حياء وفراراً على وجهها ، وروي في هذا أنها فرت الى بلاد مصر أو نحوها قال وهب بن منبه ، وروي أيضاً أنها خرجت الى موضع يعرف ( ببيت لحم ) بينه وبين أيلياء أربعة أميال .