اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞فَحَمَلَتۡهُ فَٱنتَبَذَتۡ بِهِۦ مَكَانٗا قَصِيّٗا} (22)

قوله تعالى : { فَحَمَلَتْهُ فانتبذت } .

قيل : إنَّ جبريل -صلوات الله عليه وسلامه- رفع درعها ، فنفخ في جيبه ، فحملتْ حين لبستْ .

وقيل : نفخ جبريلُ من بعيدٍ ، فوصل الرِّيح إليها ، فحملت بعيسى في الحالِ .

وقيل : إنَّ النَّفْخة كانت في فيها ، فوصلت إلى بطنها .

وقيل : كان النَّافخُ هو الله تعالى ؛ لقوله عزَّ وجلَّ : { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } [ التحريم : 12 ] .

وظاهرهُ ؛ يفيدُ أنَّ النافخَ هو الله تعالى ؛ ولأنه تعالى قال : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ } [ آل عمران : 59 ] .

ومقتضى التشبيه حُصُول المُشابهة إلاَّ فيما أخرجه الدَّليل ، وفي حقِّ آدم النَّافخُ هو الله تعالى ؛ لقوله عزَّ وجلَّ : { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } [ الحجر : 29 ] فكذا هاهنا ، وإذا عرفت هذا ، ظهر أن في الكلام حذفاً ، تقديره : " فَنَفخَ فيها ، فحملتهُ

قيل : حملتْ ، وهي بنتُ [ ثلاثَ عشرة سنةً ]{[21494]} .

وقيل : بنتُ عشرين ، وقد كانت حاضتْ حيضتين قبل أن تحمل ، وليس في القرآن ما يدلُّ على شيء من هذه الأحوال .

قوله تعالى : { فانتبذت بِهِ } : الجارُّ والمجرورُ في محلِّ نصب على الحال ، أي : انتبذتْ ، وهو مصاحبٌ لها ؛ كقوله : [ الوافر ]

. . . *** تَدُوسُ بِنَا الجَمَاجِمَ والتَّرِيبا{[21495]}

والمعنى : اعتزلت ، وهو في بطنها ؛ كقوله : { تَنبُتُ بالدهن } [ المؤمنون : 20 ] أي : تنبتُ ، والدُّهْنُ فيها .

{ مَكَاناً قَصِيّاً } : بعيداً من أهلها .

قال ابن عبَّاس{[21496]} -رضي الله عنهما- : أقصى الوادي ، وهو وادي بيت لحم ؛ فراراً من قومها أن يُعَيِّروها بولادتها من غير زوج{[21497]} .

واختلفوا في علَّة الانتباذِ{[21498]} {[21499]} ؛ فروى الثعلبيُّ في " العَرَائِسِ " عن وهب قال : إنَّ مريم لمَّا حملتْ بعيسى -صلوات الله عليه- كان معها ابن عمٍّ لها يُسمَّى " يُوسُفَ النَّجَّار " ، وكانا منطلقين إلى المسجد الذي عند " جَبَلِ صُهْيُون " ، وكانت مريمُ ويوسفُ يخدمان ذلك المسجدَ ، ولا يعلمُ من أهل زمانهما أحدٌ أشدُّ اجتهاداً منهما ، وأوَّلُ من عرف حمل مريم يوسفُ ، فتحير في أمرها ، فكلَّما أراد أن يتَّهمها ، ذكر صلاحها ، وعبادتها ، وأنَّها لم تغبْ عنه ساعةً قطُّ ؛ فقال : إنَّه قد وقع في نفسي من أمرِك شيءٌ ، وقد حرصتُ على كتمانِهِ ، فغلبني ذلك ، فرأيتُ أنَّ الكلام فيه أشفى لصدْرِي فقالت : قُلْ قَوْلاً جَمِيلاً .

قال : أخبرني يا مريمُ ، هَلْ يَنْبُتُ زَرْعٌ بِغَيْرِ بِذْرٍ ؟ وهلْ تَنْبُتُ شَجَرةٌ من غَيْرِ غَيْثٍ ؟ وهَلْ يَكُونُ ولد من غَيْرِ ذكرٍ ؟ قالتْ : نَعَمْ ، ألَمْ تَعْلَمْ أنَّ الله تعالى أنْبَتَ الزَّرْعَ يوْمَ خلقهُ مِنْ غَيْرِ بَذْرٍ ، وهذا البَذْرُ إنَّما حصل مِنَ الذي أنْبَتَهُ من غَيْرِ بَذْرٍ .

ألم تعلم أنَّ الله أنْبتَ الشَّجَرَةَ بغير غَيْثٍ ، وبالقُدْرَةِ جعل الغَيْثَ حياةُ الشَّجرةِ ، بعدمَا خَلَقَ الله كُلَّ واحدٍ مِنْها على حدةٍ ؟ أو تقُول : إنَّ الله لا يقدرُ على أنْ يُنْبِتَ الشَّجرة حتَّى استعان بالماءِ ، ولوْلاَ ذلكَ ، لَمْ يَقْدِرْ على إنباتها ؟ ! .

قال يُوسفُ : لا أقُولُ هذا ، ولكنِّي أقُولُ : إنَّ الله تعالى قادرٌ على مَا يَشَاءُ ، فيقُول : كُنْ فَيَكُونَ ، فقالت لهُ مريمُ : أو لَمْ تعلمْ أنَّ خلق آدَمَ وامْرأتهُ حوَّاء من غير ذكرٍ ، ولا أنثى ، فعندهُ زالتِ التُّهْمَةُ عن قلبهِ ، وكان ينُوبُ عنها في خدمةِ المسجدِ ؛ لاستيلاءِ الضَّعْف عليها ؛ بسبب الحَمْلِ ، وضيق القَلْبِ ، فلمَّا قرُبَ نفاسُها ، أوحى الله تعالى إليها أن اخْرُجي من أرض قومكِ ؛ لئلاَّ يقتُلُوا ولدكِ ، فاحتملها يوسفُ إلى أرْضِ مِصْر على حمار لهُ ، فلمَّا بلغتْ تلك البلادَ ، وأدْركهَا النِّفاسُ ، فألجأها إلى أصلِ نخلةٍ ، وذلك في زمانِ بردٍ ، فاحتضنتها ، [ فوضعت ]{[21500]} عندها . وقيل : إنَّها استحيت من زكريَّا ، فذهبت إلى مكانٍ بعيدٍ ، لئلاَّ يعلم بها زكريَّا ، صلوات الله عليه- .

وقيل : لأنَّها كانَتْ مشهورةً في بني إسرائيل بالزُّهدِ ؛ لنذْرِ أمِّهَا ، وتشاجَّ الأنبياء في تربيتها ، وتكفُّل زكريَّا بِهَا ، وكان الرِّزْقُ يأتيها من عند الله تعالى ، فلمَّا كانت في نهايةِ الشُّهرةِ اسْتَحيتْ من هذه الواقعةِ ، فذهَبتْ إلى مكانٍ بعيدٍ .

وقيل : خافت على ولدها من القَتْل ، لو ولدته بين أظهرهم . وكلُّ هذه الوجُوهِ محتملةٌ ، وليس في القرآن ما يدلُّ على شيءٍ منها .

فصل في بيان حمل مريم

اختلفُوا في مدَّة حملها ، فرُوي عن ابن عبَّاس -رضي الله عنهما- أنَّها تسعة أشهر ؛ كسائر النسِّاء{[21494]} في الغالب .

وقيل : ثمانية أشهر ، وكان ذلك آية أخرى ؛ لأنَّه لم يعش ولدٌ يولدُ لثمانية أشهر إلاَّ عيسى " صلوات الله عليه- .

وقال عطاءٌ ، وأبو العالية ، والضحاك : سبعةُ أشهر{[21495]} وقيل : ستَّةُ أشهر .

وقال مقاتلُ بنُ سليمان : ثلاثُ ساعاتٍ ، حملت به في ساعةٍ ، وصُوِّر في ساعةٍ ، ووضعته حين زالتِ الشَّمْسِ من يومها{[21496]} .

وقال ابنُ عبَّاس : كان الحَمْل والولادةُ في ساعةٍ واحدة{[21497]} ، ويدلُّ عليه وجهان :

الأول : قوله : { فَحَمَلَتْهُ فانتبذت بِهِ } { فَأَجَآءَهَا المخاض } { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ } ، والفاء : للتعقيب ؛ فدلَّت هذه الفاءاتُ على أنَّ كلَّ واحدٍ من هذه الأحوال حصل عقيبَ الآخَرِ من غير فصْلٍ ؛ وذلك يوجبُ كون مدَّة الحَمْل ساعةً واحدة لا يقال : انتباذها مكاناً قصيًّا كيف يحصُل في ساعةٍ واحدةٍ ؛ لأنَّا نقول : السُّدي فسَّر بأنَّها ذهبت إلى أقصى موضع في جانب محرابها .

الثاني : أنَّ الله تعالى قال في وصفه { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ آل عمران : 59 ] ، فثبت أن عيسى -صلواتُ الله عليه- كما قال الله تعالى : " كُنْ " فكان ، وهذا مما لا يتصوَّر فيه مدَّةُ الحمل ، إنَّما يتصوَّر مُدَّة الحمل في المتولِّد عن النُّطفة .

والقَصيُّ : البعيدُ .

يقال : مكانٌ قاصٍ ، وقَصِيٌّ بمعنى واحدٍ ؛ مثل : عاصٍ وعَصِيٍّ .


[21494]:في ب: عشر.
[21495]:تقدم.
[21496]:ينظر: معالم التنزيل 3/192.
[21497]:ذكره البغوي في "تفسيره" (3/192) عن ابن عباس.
[21498]:ينظر: الفخر الرازي 21/172.
[21499]:ينظر: تفسير الرازي (21/172).
[21500]:في ب: فولدت.