{ فادخلوا أبواب جهنم ْ } كلُّ أهل عمل يدخلون من الباب اللائق بحالهم ، { فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ْ } نار جهنم فإنها مثوى الحسرة والندم ، ومنزل الشقاء والألم ومحل الهموم والغموم ، وموضع السخط من الحي القيوم ، لا يفتَّر عنهم من عذابها ، ولا يرفع عنهم يوما من أليم عقابها ، قد أعرض عنهم الرب الرحيم ، وأذاقهم العذاب العظيم .
يخبر تعالى عن حال المشركين الظالمي أنفسهم عند احتضارهم ومجيء الملائكة إليهم لقبض أرواحهم : { فَأَلْقَوُا السَّلَمَ } أي : أظهروا السمع والطاعة والانقياد قائلين : { مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ } كما يقولون يوم المعاد : { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ } [ المجادلة : 18 ] .
قال الله مكذبا لهم في قيلهم ذلك : { بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ }{[16402]} أي : بئس المقيل والمقام والمكان من دار هوان ، لمن كان متكبرًا عن آيات الله واتباع رسله .
وهم يدخلون جهنم من يوم مماتهم بأرواحهم ، ويأتي{[16403]} أجسادهم في قبورها من حرِّها وسمومها ، فإذا كان يوم القيامة سلكت{[16404]} أرواحهم في أجسادهم ، وخلدت في نار جهنم ، { لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا } [ فاطر : 36 ] ، كما قال الله تعالى : { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } [ غافر : 46 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَادْخُلُوَاْ أَبْوَابَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبّرِينَ } .
يقول تعالى ذكره ، يقول لهؤلاء الظلمة أنفسهم حين يقولون لربهم : ما كنا نعمل من سوء : ادخلوا أبواب جهنم ، يعني : طبقات جهنم ، خالدِينَ فيها يعني : ماكثين فيها ، فَلَبِئْسَ مَثْوَى المُتَكَبّرِين يقول : فلبئس منزل من تكبر على الله ولم يقرّ بربوبيته ويصدّق بوحدانيته جهنم .
وقوله { فادخلوا } من كلام الذي يقول { بلى } ، و { أبواب جهنم } مفضية إلى طبقاتها التي هي بعض على بعض ، و «الأبواب » كذلك باب على باب ، و { خالدين } حال ، واللام في قوله { فلبئس } لام التأكيد .
قال القاضي أبو محمد : وذكر سيبويه ، رحمه الله ، وهو إجماع النحويين قال : ما علمت أن لام التأكيد لا تدخل على الفعل الماضي وإنما تدخل عليه لام القسم لكن دخلت على «بئس » لما لم تتصرف أشبهت الأسماء وبعدت عن حال الفعل من جهة أنها لا تدخل على زمان ، و «المثوى » موضع الإقامة ، ونعم وبئس إنما تدخلان على معرف بالألف واللام أو مضاف إلى معرف بذلك ، والمذموم هنا محذوف ، تقديره بئس المثوى { مثوى المتكبرين } ، و «المتكبر » هنا هو الذي أفضى به كبره إلى الكفر .
تفريع { فادخلوا أبواب جهنم } على إبطال نفيهم عمل السّوء ظاهر ، لأنّ إثبات كونهم كانوا يعملون السّوء يقتضي استحقاقهم العذاب ، وذلك عندما كشف لهم عن مقرّهم الأخير ، كما جاء في الحديث « القبر روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النّار » . ونظيره قوله تعالى : { ولو ترى إذ يتوفّى الّذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق } [ سورة الأنفال : 50 ] .
وجملة { فلبئس مثوى المتكبرين } تذييل . يحتمل أن يكون حكاية كلام الملائكة ، والأظهر أنّه من كلام الله الحكاية لا من المحكيّ ، ووصفهم بالمتكبّرين يرجّح ذلك ، فإنّه لربط هذه الصفة بالموصوف في قوله تعالى { قلوبهم منكرة وهم مستكبرون } [ سورة النحل : 22 ] . واللّام الدّاخلة على بئس لام القسم .
والمثوى . المرجع . من ثوى إذا رجع ، أو المقام من ثوى إذا أقام . وتقدّم في قوله تعالى : { قال النار مثواكم } في سورة الأنعام ( 128 ) .
ولم يعبّر عن جهنّم بالدار كما عبّر عن الجنّة فيما يأتي بقوله تعالى : { ولنعم دار المتقين } [ سورة النحل : 30 ] تحقيراً لهم وأنّهم ليسوا في جهنّم بمنزلة أهل الدّار بل هم متراصّون في النار وهم في مثوى ، أي محل ثواء .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
قالت الخزنة لهم: {فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها} من الموت، {فلبئس مثوى}، يعني: مأوى، {المتكبرين} عن التوحيد، فأخبر الله عنهم في الدنيا، وأخبر بمصيرهم في الآخرة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول لهؤلاء الظلمة أنفسهم حين يقولون لربهم:"ما كنا نعمل من سوء": "ادخلوا أبواب جهنم"، يعني: طبقات جهنم، "خالدِينَ "فيها يعني: ماكثين فيها، "فَلَبِئْسَ مَثْوَى المُتَكَبّرِين "يقول: فلبئس منزل من تكبر على الله ولم يقرّ بربوبيته ويصدّق بوحدانيته جهنم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أي بئس مقام المتكبرين الذين تكبروا على ما جاء به الرسل من الله وما أنزل الله عليهم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"فلبئس مثوى المتكبرين" قسم من الله تعالى أنها بئس المأوى لمن تكبر على الله، ولم يعمل بطاعته.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
وكذلك الذين تقسو نفوسُهم بإعراضهم عن الطاعات إذا نزَلَتْ بهم الوفاةُ يأخذون في الجزع وفي التضرع، ثم لا تطيبُ نفوسهم بأن يُقِرُّوا بتفاصيل أعمالهم عند الناس، فيما يتعلق بإرضاء خصومهم لم أَخَلُّوا من معاملاتهم، ثم الله يؤاخذهم بالكبير والصغير، والنقير والقطمير، ثم يبقون أبداً في وبال ما أحقبوه، لأن شؤم ذلك يلحقَهم في أُخراهم.
وهذا يدل على تفاوت منازلهم في العقاب، فيكون عقاب بعضهم أعظم من عقاب بعض، وإنما صرح تعالى بذكر الخلود ليكون الغم والحزن أعظم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{أبواب جهنم خالدين فيها} أي في جهنم التي دأبها تجهم من دخلها. ولما كان هذا المقام للمشاققة. وكان أمرها زائد القباحة. كان هذا الدخول أقبح دخول، وكان سبباً لأن يقال: {فلبئس} بالأداة الجامعة لمجامع الذم {مثوى المتكبرين} على وجه التأكيد وبيان الوصف الذي استحقوا به ذلك...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{فادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ}...وقيل: أبوابُها أصنافُ عذابها فالدخولُ عبارةٌ عن الملابسة والمقاساة...
{فَلَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين}... وذكرُهم بعنوان التكبر للإشعار بعلّيته لثُوائهم فيها...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{فادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} خطاب لكل صنف منهم أن يدخل باباً من أبواب جهنم، والمراد بها اما المنفذ أو الطبقة... وجوز أن يراد بالأبواب أصناف العذاب، فقد جاء إطلاق الباب على الصنف كما يقال: فلان ينظر في باب من العلم أي صنف منه وحينئذ لا مانع في كون الخطاب لكل فرد...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ْ} نار جهنم فإنها مثوى الحسرة والندم، ومنزل الشقاء والألم ومحل الهموم والغموم، وموضع السخط من الحي القيوم، لا يفتَّر عنهم من عذابها، ولا يرفع عنهم يوما من أليم عقابها، قد أعرض عنهم الرب الرحيم، وأذاقهم العذاب العظيم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وجملة {فلبئس مثوى المتكبرين} تذييل. يحتمل أن يكون حكاية كلام الملائكة، والأظهر أنّه من كلام الله الحكاية لا من المحكيّ، ووصفهم بالمتكبّرين يرجّح ذلك، فإنّه لربط هذه الصفة بالموصوف في قوله تعالى {قلوبهم منكرة وهم مستكبرون} [سورة النحل: 22]. واللّام الدّاخلة على بئس لام القسم.
ولم يعبّر عن جهنّم بالدار كما عبّر عن الجنّة فيما يأتي بقوله تعالى: {ولنعم دار المتقين} [سورة النحل: 30] تحقيراً لهم وأنّهم ليسوا في جهنّم بمنزلة أهل الدّار بل هم متراصّون في النار وهم في مثوى، أي محل ثواء.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين}. (الفاء) هنا فاء السببية، أي أن ما قبلها سبب لما بعدها، فسبب ظلمهم أنفسهم بما قدموا من ظلم للفطر، وشرك، يدخلون النار، وجاء إدخالهم بصيغة الأمر، للدلالة على أنهم مجبرون في هذا الدخول لا مخيرون، وجاء بكلام يدل على أنهم دخلوا، ولم يقل (أدخلوا جهنم)، للتهكم بهم كأنهم اختاروها، وإنهم كذلك فقد اختاروها من يوم أن اختاروا الكفر على الإيمان واستكبروا على الحق فلم يؤمنوا به مع قيام بيناته ودلائله.و {أبواب جهنم} كناية عن سعتها، وسهولة الوصول إليها لمن كتبت عليهم وأردوها بأفعالهم...
{فلبئس مثوى المتكبرين} و (الفاء) للإفصاح عن شرط مقدر، أي إذا كانوا سيدخلون جهنم خالدين، فلبئس مثواهم...
سبق أن قلنا في شرح قوله تعالى في وصف جهنم: {لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم} (سورة الحجر 44). أي: أن لكل جماعة من أهل المعصية باباً معلوماً.. فباب لأهل الربا.. وباب لأهل الرشوة.. وباب لأهل النفاق وهكذا.. ولك أن تتصور ما يلاقيه من يجمع بين هذه المعاصي!! إنه يدخل هذا الباب ثم يخرج منه ليدخل باباً آخر.. حقاً ما أتعس هؤلاء! وهنا يقول تعالى: {فادخلوا أبواب جهنم} فجاءت أيضاً بصورة الجمع. إذن: كل واحد منكم يدخل من بابه الذي خصص له..
{فلبس مثوى المتكبرين} والمثوى هو مكان الإقامة، وقال تعالى في موضع آخر: {لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين} (سورة النحل 23). فتكبر واستكبر وكل ما جاء على وزن (تفعًل) يدل على أن كبرهم هذا غير ذاتي؛ لأن الذي يتكبر حقاً يتكبر بما فيه ذاتياً لا يسلبه منه أحد، إنما من يتكبر بشيء لا يملكه فتكبره غير حقيقي، وسرعان ما يزول ويتصاغر هؤلاء بما تكبروا به في الدنيا، وبذلك لا يكون لأحد أن يتكبر لأن الكبرياء الحقيقي لله عز وجل.