ولهذا توعد من صدر منهم هذا الصنيع ، بقوله : { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ } وسيجازيهم على ما عملوا من الأعمال التي يعلمها اللّه تعالى ، وهذه الآيات نزلت في رجل من المنافقين يقال له { ثعلبة } جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وسأله أن يدعو اللّه له ، أن يعطيه الله من فضله ، وأنه إن أعطاه ، ليتصدقن ، ويصل الرحم ، ويعين على النوائب ، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان له غنم ، فلم تزل تتنامى ، حتى خرج بها عن المدينة ، فكان لا يحضر إلا بعض الصلوات الخمس ، ثم أبعد ، فكان لا يحضر إلا صلاة الجمعة ، ثم كثرت فأبعد بها ، فكان لا يحضر جمعة ولا جماعة .
ففقده النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبر بحاله ، فبعث من يأخذ الصدقات من أهلها ، فمروا على ثعلبة ، فقال : ما هذه إلا جزية ، ما هذه إلا أخت الجزية ، فلما لم يعطهم جاءوا فأخبروا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : { يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة } ثلاثا .
فلما نزلت هذه الآية فيه ، وفي أمثاله ، ذهب بها بعض أهله فبلغه إياها ، فجاء بزكاته ، فلم يقبلها النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم جاء بها لأبي بكر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقبلها ، ثم جاء بها بعد أبي بكر لعمر فلم يقبلها ، فيقال : إنه هلك في زمن عثمان{[377]} .
وقوله : { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلامُ الْغُيُوبِ } يخبرهم تعالى أنه يعلم السر وأخفى ، وأنه أعلم بضمائرهم وإن أظهروا أنه إن حصل لهم أموال تصدقوا منها وشكروا عليها ، فإنه أعلم بهم من أنفسهم ؛ لأنه تعالى علام الغيوب ، أي : يعلم كل غيب وشهادة ، وكل سر ونجوى ، ويعلم ما ظهر وما بطن .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنّ اللّهَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ *
يقول تعالى ذكره : ألم يعلم هؤلاء المنافقون الذين يكفرون بالله ورسوله سرّا ، ويظهرون الإيمان بهما لأهل الإيمان بهما جهرا ، أن الله يعلم سرّهم الذي يسرونه في أنفسهم من الكفر به ربرسوله ، وَنَجْوَاهُمْ يقول : ونجواهم إذا تناجوا بينهم بالطعن في الإسلام وأهله وذكرهم بغير ما ينبغي أن يذكروا به ، فيحذروا من الله عقوبته أن يحلها بهم وسطوته أن يوقعها بهم على كفرهم بالله وبرسوله وعيبهم للإسلام وأهله ، فنزعوا عن ذلك ويتوبوا منه . وأنّ اللّهَ عَلاّمُ الغُيُوبِ يقول : ألم يعلموا أن الله علام ما
غاب عن أسماع خلقه وأبصارهم وحواسّهم ، مما أكنّته نفوسهم ، فلم يظهرْ على جوارحهم الظاهرة ، فينهاهم ذلك عن خداع أوليائه بالنفاق والكذب ، ويزجرهم عن إضمار غير ما يبدونه ، وإظهار خلاف ما يعتقدونه ؟
وقوله : { ألم يعلموا } الآية ، لفظ به تعلق من قال في الآية المتقدمة إن العهد كان من المنافقين بالنية لا بالقول ، وقرأ الجمهور «يعلموا » بالياء من تحت ، وقرأ أبو عبد الرحمن والحسن «ألم تعلموا » بالتاء ، من فوق ، وهذه الآية تناسب حالهم وذلك أنها تضمنت إحاطة علم الله بهم وحصره لهم ، وفيها توبيخهم على ما كانوا عليه من التحدث في نفوسهم من الاجتماع على ثلب الإسلام ، وراحة بعضم مع بعض في جهة النبي صلى الله عليه وسلم وشرعه ، فهي تعم المنافقين أجمع ، وقائل المقالة المذكورة ذهب إلى أنها تختص بالفرقة التي عاهدت .
استئناف لأجل التقرير . والكلامُ تقرير للمخاطَب عنهم لأنّ كونهم عالمين بذلك معروف لدى كلّ سامع . والسر ما يخفيه المرء من كلام وما يضمر في نفسه فلا يُطلع عليه الناس وتقدم في قوله { سراً وعلانية } في سورة البقرة ( 274 ) .
والنجوى : المحادثة بخفاء أي يعلم ما يضمرونه في أنفسهم وما يتحادثون به حديثَ سر لئلا يطلع عليه غيرهم .
وإنّما عطفت النجوى على السرّ مع أنّه أعمّ منها لينبئهم باطّلاعه على ما يتناجَون به من الكيد والطعن .
ثم عَمّم ذلك بقوله : وأن الله علام الغيوب } أي قوي علمُه لجميع الغيوب .
والغيوب : جمع غيب وهو ما خفي وغاب عن العيان . وتقدّم قوله : { الذين يؤمنون بالغيب } في سورة البقرة ( 3 ) .