قوله تعالى : { قالوا } ، يعني الملأ .
قوله تعالى : { أرجه } قرأ ابن كثير وأهل البصرة وابن عامر بالهمزة وضم الهاء ، وقرأ الآخرون بلا همزة ، ثم نافع رواية ورش والكسائي يشبعان الهاء كسراً ، ويسكنها عاصم وحمزة ، ويختلسها أبو جعفر وقالوا : قال عطاء : معناه أخره . وقيل احبسه .
قوله تعالى : { وأخاه } ، معناه أنهم أشاروا إليه بتأخير أمره ، وترك التعرض له بالقتل . قوله تعالى : { وأرسل في المدائن حاشرين } ، يعني الشرط في المدائن ، وهي مدائن الصعيد من نواحي مصر ، قالوا : أرسل إلى هذه المدائن رجالاً يحشرون إليك من فيها من السحرة ، وكان رؤساء السحرة بأقصى مدائن الصعيد ، فإن غلبهم موسى صدقناه وإن غلبوا علمنا أنه ساحر .
فلما تشاوروا في شأنه ، وائتمروا فيه ، اتفق رأيهم على ما حكاه الله تعالى عنهم في قوله تعالى :
{ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ }
قال ابن عباس : { أَرْجِهِ } أخّره . وقال قتادة : احبسهُ . { وَأَرْسِلْ } أي : ابعث { فِي الْمَدَائِنِ } أي : في الأقاليم ومعاملة ملكك ، { حَاشِرِينَ } أي : من يحشر لك السحرة من سائر البلاد ويجمعهم .
وقد كان السحر في زمانهم غالبا كثيرا ظاهرا . واعتقد من اعتقد منهم ، وأوهم من أوهم منهم ، أن ما جاء موسى ، عليه السلام ، من قبيل ما تشعبذه{[12006]} سحرتهم ؛ فلهذا جمعوا له السحرة ليعارضوه بنظير ما أراهم من البينات ، كما أخبر تعالى عن فرعون حيث قال : { قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى . فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى . قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى . فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى } [ طه : 57 - 60 ]
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوَاْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ } . .
يقول تعالى ذكره : قال الملأ من قوم فرعون لفرعون : أرجئه : أي أخره . وقال بعضهم : معناه : احبس . والإرجاء في كلام العرب : التأخير ، يقال منه : أرجيت هذا الأمر وأرجأته إذا أخرته ، ومنه قول الله تعالى : تُرْجي مَنْ تَشاءُ مِنهُنّ : تؤخر ، فالهمز من كلام بعض قبائل قيس يقولون : أرجأت هذا الأمر ، وترك الهمز من لغة تميم وأسد يقولون : أرجيته .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة وبعض العراقيين : «أرْجِهِ » بغير الهمز وبجرّ الهاء . وقرأه بعض قرّاء الكوفيين : أرْجِهْ بترك الهمز وتسكين الهاء على لغة من يقف على الهاء في المكنّي في الوصل إذا تحرّك ما قبلها ، كما قال الراجز :
أنْحَى عليّ الدّهْرُ رِجْلا وَيَدَا ***يُقْسِمُ لا يُصْلِحُ إلاّ أفْسَدَا
***فَيُصْلِحُ الَيْومَ ويُفْسِدُهُ غَدَا ***
وقد يفعلون مثل هذا بهاء التأنيث فيقولون : هذه طلحه قد أقبلت ، كما قال الراجز :
لَمّا رأى أنْ لا دَعَهْ وَلا شِبَعْ ***مالَ إلى أرْطاةِ حِقْفٍ فاضْطَجَعْ
وقرأه بعض البصريين : «أرْجِئْهُ » بالهمز وضمّ الهاء ، على لغة من ذكرت من قيس .
وأولى القراءات في ذلك بالصواب أشهرها وأفصحها في كلام العرب ، وذلك ترك الهمز وجرّ الهاء ، وإن كانت الأخرى جائزة ، غير أن الذي اخترنا أفصح اللغات وأكثرها على ألسن فصحاء العرب .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : أرْجِهْ فقال بعضهم : معناه : أخره . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : أخبرني عطاء الخراساني عن ابن عباس ، قوله : أرْجِهْ وأخاهُ قال : أخره .
وقال آخرون : معناه احبسه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : أرْجِهْ وأخاهُ : أي احبسه وأخاه .
وأما قوله : وأرْسِلْ فِي المَدَائِنِ حاشِرِينَ يقول : من يحشر السحرة فيجمعهم إليك ، وقيل : هم الشّرَط . ذكر من قال ذلك :
حدثني عباس بن أبي طالب ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا الحكم بن ظهير ، عن السديّ ، عن ابن عباس : وأرْسِلْ فِي المَدَائِنِ حاشِرِينَ قال : الشّرط .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر ، عن أبيه ، عن مجاهد : وأرْسِلْ فِي المَدَائِنِ حاشِرِينَ قال : الشرط .
قال ثنا حميد ، عن قيس ، عن السديّ : وأرْسِلْ فِي المَدَائِنِ حاشِرِينَ قال : الشرط .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر ، عن أبيه ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، في قوله : فِي المَدَائِنِ حاشِرِينَ قال : الشرط .
حدثني عبد الكريم بن الهيثم ، قال : حدثنا إبراهيم بن بشار ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبو سعد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : وأرْسِلْ فِي المَدَائِنِ حاشِرِينَ قال : الشرط .
ثم أشار الملأ على فرعون بأن يؤخر موسى وهارون ويدع النظر في أمرهما ويجمع السحرة من كل مكان حتى تكون غلبة موسى بحجة واضحة معلومة بينة ، وقرأ ابن كثير «أرجئهو » بواو بعد الهاء المضمومة وبالهمز قبل الهاء ، وقرأ أبو عمرو «أرجئه » بالهمز ، دون واو بعدها وقرأ نافع وحده في رواية قالون : «أرجهِ » بكسر الهاء ، ويحتمل أن يكون المعنى : أخره فسهل الهمزة ، ويحتمل من الرجا بمعنى أطعمه ورجه قاله المبرد ، وقرأ ورش عن نافع : «أرجهِي » بياء بعد كسرة الهاء ، وقرأ ابن عامر : «أرجئهِ » بكسر الهاء وبهمزة قبلها ، قال الفارسي وهذا غلط وقرأ عاصم والكسائي «أرجهُ » بضم الهاء دون همز ، وروى أبان عن عاصم : «أرجهْ » بسكون الهاء وهي لغة تقف على هاء الكناية إذا تحرك ما قبلها ، ومنه قول الشاعر : [ منظور بن حبة الأسدي ]
أنحى عليًّ الدهرُ رجلاً ويدا*** يقسم لا أصلَحَ إلا أفسدا
لما رأى أن لا دعة ولا شبع*** مال إلى أرطاة حقف فاضطجع
وحكى النقاش أنه لم يكن يجالس فرعون ولد ِغَّية وإنما كانوا أشرافاً ولذلك أشاروا بالإرجاء ولم يشيروا بالقتل وقالوا : إن قتلته دخلت على الناس شبهة ولكن اغلبه بالحجة ، و { المدائن } جمع مدينة وزنها فعيلة من مدن أو مفعلة من دان يدين وعلى هذا يهمز مدائن أو لا يهمز ، و { حاشرين } معناه جامعين ، قال المفسرون : وهم الشرط .