الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قَالُوٓاْ أَرۡجِهۡ وَأَخَاهُ وَأَرۡسِلۡ فِي ٱلۡمَدَآئِنِ حَٰشِرِينَ} (111)

قوله تعالى : { أَرْجِهْ } : في هذه الكلمة هنا والشعراء ست قراءات في المشهور المتواتر ، ولا التفاتَ إلى مَنْ أنكر بعضها ولا لمَنْ أنكر على راويها . وضبطُ ذلك أن يقال : ثلاث مع الهمز وثلاث مع عدمه ، فأمَّا الثلاث التي مع الهمز فأوّلُها قراءة ابن كثير ، وهشام عن ابن عامر : أَرْجِئْهو بهمزةٍ ساكنة وهاء متصلة بواو . الثانية قراءة أبي عمرو : أَرْجِئْهُ كما تقدَّم إلا أنها لم يَصِلْها بواو . الثانية قراءة أبي عمرو : أَرْجِئْهُ كما تقدَّم إلا أنها لم يَصِلْها بواو . الثالثة : قراءة ابن ذكوان عن ابن عامر : أَرْجِئْهِ بهمزة ساكنة وهاء مكسورة مِنْ غير صلة . وأمَّا الثلاثُ التي مع غير الهمز فأوَّلها قراءة عاصم وحمزة : أَرْجِهْ بكسرِ الجيم وسكون الهاء وصلاً ووقفاً . الثانية قراءة الكسائي : أَرْجِهي بهاء متصلة بياء . الثالثة : قراءة قالون بهاء مكسورة دون ياء .

فأمَّا ضمُّ الهاء وكسرُها فقد عُرِف مما تقدَّم . وأمَّا الهمزُ وعدمُه فلغتان مشهورتان يقال : أَرْجَأْته وأَرْجَيْتُه أي : أخَّرته ، وقد قُرِئ قوله تعالى : { تُرْجِي مَن تَشَآءُ } [ الأحزاب : 51 ] بالهمز وعدمِه . وهذا كقولهم : توضَّأْتُ وتوضَّيْتُ . وهل هما مادتان أصليتان أم المبدلُ فرع الهمز ؟ احتمالان .

وقد طَعَنَ قومٌ على قراءة ابن ذكوان فقال الفارسيُّ : " ضمُّ الهاءِ مع الهمز لا يجوزُ غيرُه ، وروايةُ ابن ذكوان عن ابن عامر غلطٌ " . وقال ابن مجاهد : " وهذا لا يجوز ، لأن الهاءَ لا تُكسَرُ إلا بعد كسرةٍ أو ياءٍ ساكنة " . وقال الحوفي : " ومن القرَّاء مَنْ يكسر مع الهمز وليس بجيد " . وقال أبو البقاء : " ويُقْرأ بكسر الهاء مع الهمزِ وهو ضعيفٌ ، لأنَّ الهمزةَ حرفٌ صحيحٌ ساكنٌ فليس قبلَ الهاءِ ما يقتضي الكسر " .

قلت : وقد اعتذر الناسُ عن هذه القراءة على سبيل التنازل بوجهين : أحدُهما : أن الهمزةَ ساكنةٌ والساكنُ حاجزٌ غيرُ حصينٍ ، وله شواهدُ مذكورةٌ في موضعها ، فكأنَّ الهاءَ وَلِيَت الجيمَ المكسورةَ فلذلك كُسِرت . الثاني :أن الهمزةَ كثيراً ما يَطْرأ عليها التغييرُ ، وهي هنا في مَعْرِض أن تُبْدلَ ياءً ساكنة لسكونِها بعد كسرةٍ فكأنها وَلِيَتْ ياءً ساكنة فلذلك كُسِرَتْ .

وقد اعترض أبو شامةَ على هذين الجوابين بثلاثة أوجه . الأول : أن الهمزَ معتدٌّ به حاجزاً بإجماع في { أَنبِئْهُمْ } [ البقرة : 33 ] و { نَبِّئْهُمْ } [ القمر : 28 ] ، والحكمُ واحدٌ في ضمير الجمع والمفرد فيما يرجع إلى الكسر والضم . الثاني : أنه كان يلزمُهُ صلةُ الهاء إذ هي في حكمٍ كأنها قد وَلِيت الجيم . الثالث : أن الهمزَ لو قُلِبَ ياءً لكان الوجهُ المختارُ ضمُّ الهاء مع صريح الياء نظراً إلى أنَّ أصلَها همزة ، فما الظنُّ بمَنْ يكسر الهاءَ مع صريح الهمزة . وسيأتي تحقيق ذلك في باب وقفِ حمزةَ وهشام ، فضمُّ الهاء مع الهمزة هو الوجه .

واستضعف أبو البقاء قراءةَ ابن كثير وهشام فإنه قال : " وأَرْجِئْه " يُقرأ بالهمز وضم الهاء من غير إشباع وهو الجيد ، وبالإِشباع وهو ضعيف ؛ لأن الهاء خفيَّة ، فكأن الواوَ التي بعدها تتلو الهمزةَ ، وَهو قريبٌ من الجمع بين الساكنين ، ومن ههنا ضَعُف قولُهم : " عليهي مال " بالإِشباع " . قلت : وهذا التضعيفُ ليس بشيء لأنها لغةٌ ثابتةٌ عن العرب أعني إشباعَ حركةِ الهاء بعد ساكن مطلقاً ، وقد تقدَّم أن هذا أصلٌ لابن كثير ليس مختصاً بهذه اللفظة ، بل قاعدتُه : كلُّ هاءِ كنايةٍ بعد ساكن أن يُشْبع حركتَها حتى يتولَّد منها حرفُ مَدٍّ نحو : " مِنْهو وعَنْهو وأرجِئْهو " إلا قبلَ ساكن فإن المدَّ يُحْذَفُ لالتقاءِ الساكنين إلا في موضع واحد رواه عنه البزي وهو { عَنْهُ تَّلهى } [ عبس : 10 ] بتشديد التاء ، وكذلك استضعف الزجاج قراءة حمزة وعاصم . قال بعدما أنشد قول الشاعر/ :

لمَّا رأى أن لا دَعَهْ ولا شِبَعْ *** مالَ إلى أَرْطاةِ حِقْفٍ فالْطَجَعْ

" هذا شعرٌ لا يُعرف قائلُه ولا هو بشيءٍ ، ولو قاله شاعرٌ مذكور لقيل له : أخطأت ، لأن الشاعر يجوز أن يخطئ ، وهذا مذهبٌ لا يُعَرَّج عليه " . قلت : قد تقدَّم أن تسكينَ هاء الكناية لغة ثابتة ، وتقدَّم شواهدها فلا حاجةَ إلى إعادة ذلك .

وقوله " وأخاه " الأحسنُ أن يَكون نسقاً على الهاء في " أَرْجِهْ " ، ويَضْعُفُ نصبُه على المعيَّة لإِمكان النسق من غير ضعف لفظي ولا معنوي .

قوله : { فِي الْمَدَآئِنِ } متعلقٌ بأَرْسِلْ ، و " حاشرين " مفعول به ، ومفعولُ " حاشرين " محذوفٌ أي : حاشرين السحرة بدليل ما بعده . والمدائن جمع مدينة وفيها ثلاثة أقوال : أحدها وهو الصحيح أن وزنها فَعيلة فميمها أصلية وياؤها زائدة ، مشتقة مِنْ مدَن يمدُن مُدوناً أي : أقام . واستُدِلَّ لهذا القول بإطباق القراء على همز مدائن كصحيفة وصحائف وسفينة وسفائن ، ولو كانت مَفْعِلة لم تُهْمَزْ نحو : معيشة ومعايش ، ولأنهم جمعوها أيضاً على مُدُن كقولهم : سفينة وسُفُن وصحيفة وصُحُف . قال الشيخ : " ويَقْطع بأنها فَعيلة جَمْعُهم لها على فُعُل قالوا : مُدُن ، كما قالوا : صحف في صحيفة " .

قلت : قد قال الزجاجي : " المدن في الحقيقة جمع المَدِين ، لأن المدينة لا تُجمع على مُدُن ، ولكن تجمع على المدائن ومثل هذا : سُفُن كأنهم جمعوا سفينة على سفين ثم جمعوه على سُفُن " . ولا أدري ما حَمَله على جَعْل مُدُن جمع مدين ، ومدين جمع مدينة مع اطِّراد فُعُل في فعيلة لا بمعنى مَفْعولة ، اللهم إلا أن يكونَ قد لَحَظَ في مدينة أنها فعيلة بمعنى مفعولة لأنَّ معنى مدينة أن يُمْدَن فيها أي : يُقام ، ويؤيد هذا ما سيأتي من أن مدينة وزنُها في الأصل مَدْيُوْنة عند بعضهم .

القول الثاني : أن وزنها مَفْعِلة مِنْ دانه يَدينه أي : ساسه يَسُوسه فمعنى مدينة أي : مملوكة ومَسُوسة أي : مسوسٌ أهلُها ، مِنْ دانهم مَلِكُهم إذا ساسهم ، وكان ينبغي أن يُجمع على مداين بصريح الياء كمعايش في مشهور لغة العرب .

الثالث : أن وزنها مَفْعولة وهو مذهب أبي العباس . قال : " هي مِنْ دانه يَدينه إذا ملكه وقَهَره ، وإذا كان أصلُها مَدْيونة فأُعِلَّت كما يُعَلُّ مَبِيع اسمَ مفعول من البيع ، ثم يجري الخلافُ في المحذوف : هل هو الياءُ الأصلية أو الواو الزائدة ؟ الأول قول الأخفش ، والثاني قولُ المازني وهو مذهب جماهير النحاة . والمدينة معروفةٌ وهي البقعة المُسَوَّرة المستولي عليها مَلِكٌ .