اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالُوٓاْ أَرۡجِهۡ وَأَخَاهُ وَأَرۡسِلۡ فِي ٱلۡمَدَآئِنِ حَٰشِرِينَ} (111)

قوله : { قالوا أَرْجِهْ } في هذه الكلمة هنا وفي " الشُّعراءِ " [ 36 ] ست قراءات في المشهور المتواتر ، ولا التفات إلى مَنْ أنكر بعضها ولا لمن أنكر على راويها . وضبط ذلك أنْ يقال : ثلاث مع الهَمْزِ وثلاث مع عدمه .

فأمّا الثَّلاثُ التي مع الهمزة فأولُها قراءة ابن كثير{[16657]} ، وهشام عن ابن عامر : أرجِئْه

و بهمزة ساكنة ، وهاء متصلة بواو .

والثانية : قراءة أبي عَمْرو{[16658]} : أرْجِئْهُ كما تقدَّم إلا أنَّه لم يصلها بواو .

الثالثة : قراءة ابن ذكوان عن ابن عامر : أرْجِئْهِ بهمزة ساكنة وهاء مكسورة من غير صلة .

وأمّا الثَّلاثُ التي بلا همزة فأوَّلهَا : قراءة الأخوين : " أرْجِهْ " بكسر الجيم وسكون الهاء وصلاً ووقفاً .

الثانية : قراءة الكسائيِّ ، وورشٍ عن نافعٍ : " أرْجِهِي " بهاء متصلة بياء .

الثالثة : قراءة قالون بهاء مكسورة دون ياء .

فأمّا ضمُّ الهاء وكسرها فقد عُرف مما تقدَّم . وأمَّا الهمزُ وعدمه فلغتان مشهورتان يقال : أرْجَأته وأرْجَيْتُه أي : أخَّرته ، وقد قرئ قوله تعالى : { تُرْجِي مَن تَشَاءُ } [ الأحزاب : 51 ] بالهَمْزِ وعدمه ، وهذا كقولم : تَوَضَّأتُ وتَوَضَّيْتُ ، وهل هما مادتان أصليتان أم المبدل فرع الهمز ؟ احتمالان .

وقد طعن قَوْمٌ على قراءة ابن ذكوان فقال الفارسي{[16659]} : " ضم الهاء مع الهمزة لا يجوز [ غيره ]{[16660]} ، ورواية ابن ذُكْوَان عن ابن عامر غلطٌ " .

وقال ابنُ مُجَاهدٍ{[16661]} : " وهذا لا يجوزُ ؛ لأنَّ الهَاءَ لا تكسَرُ إلاَّ بعد كسرة أو ياء ساكنة " .

وقال الحُوفِيُّ : " ومن القرَّاء مَنْ يكسر مع الهَمْزِ وليس بجيِّد " .

وقال أبو البقاءِ{[16662]} : " ويُقْرأ بكسر الهاء مع الهمز وهو ضعيف ؛ لأنَّ الهمزة حرف صحيحٌ ساكنٌ ، فليس قبل الهاء ما يقتضي الكسر " .

وقد اعتذر النَّاس عن هذه القراءة على سبيل التنازل بوجهين :

أحدهما : أن الهَمْزَة ساكنةٌ والسَّاكن حاجزٌ غير حصين ، وله شواهدٌ [ مذكورة في موضعها ]{[16663]} ، فكأنَّ الهاء وليست الجيم المكسورة فلذلك كُسِرت .

[ الثاني : أن الهمزة كثيراً ما يطرأ عليها التغيير وهي هنا في معرض أن تبدل ياء ساكنة لسكونها بعد كسره فكأنها وليت ياء ساكنة فلذلك كسرت ]{[16664]} .

وقد اعترض أبُو شَامَةَ على هذين الجوابين بثلاثةِ أوجه :

الأولُ : أنَّ الهمز حاجز معتدٌّ به بإجماع في { أَنبِئْهُم } [ البقرة : 33 ] ، { وَنَبِّئْهُمْ } [ القمر : 28 ] والحكم واحد في ضمير الجمع والمفرد فيما يرجع إلى الكَسْرِ والضمّ .

الثالث : أنَّ الهمز لو قلب يَاءٌ لكان الوَجْه المختارُ ضمّ الهاء مع صريح الياءِ نظراً إلى أنَّ أصلها همزة ، فما الظنُّ بمَنْ يكسر الهاء مع صريح الهَمزةِ ، وسيأتي تحقيق ذلك في باب وقفِ حمزةَ وهشام ، فضمُّ الهَاء مع الهمزةِ هو الوَجْهُ .

وقد استضعف أبُو البقاءِ{[16665]} قراءة ابن كثير وهشام فإنَّهُ قال : " وَأرْجِئْهُ " يقرأ بالهمزة وضمِّ الهاء من غير إشباع وهو الجيِّد ، وبالإشباع وهو ضَعِيفٌ ؛ لأنَّ الهاء خفيَّة ، فكأنَّ الواو التي بعدها تتلو الهمزة ، وهو قريبٌ من الجمع بين السَّاكنين ومن هاهنا ضَعْف قولهم : " عليهي مال " بالإشْبَاع .

قال شهابُ الدِّينِ{[16666]} : " وهذا التَّضْعيف ليس بشيء ؛ لأنَّهَا لغة ثابتة عن العَرَبِ ، أعني إشباع حركة الهاء بعد ساكن مطلقاً ، وقد تقدَّم أنَّ هذا أصل لابن كثير ليس مختصاً بهذه اللَّفْظَةِ ، بل قاعدته كلُّ هاء كناية بعد ساكن أنْ تُشْبع حركتها حتى تتولَّد منها حرف مدِّ نحو : " منهو ، وعنهو ، وأرجِئْهو " إلاَّ قبل ساكن فإن المدَّ يُحذفُ لالتقاء الساكنين إلاَّ في موضع واحد رواه عنه البَزِّيُّ وهو { عَنْهُو تلهى } [ عبس : 10 ] بتشديد التَّاءِ ، ولذلك استضعف الزَّجَّاج{[16667]} قراءة الأخوين قال بعد ما أنشد قول الشَّاعر : [ الرجز ]

لَمَّا رَأى أنْ لا دَعُهُ وَلاَ شِبَعْ *** مَالَ إلَى أرْطَاةِ حِقْفٍ فَالطَجَعْ{[16668]}

" هذا شعرٌ لا يعرف قائله ولا هو بِشَيءٍ ، ولو قاله شاعر مذكور لقيل له : أخطأت ؛ لأنَّ الشَّاعر يجوز أن يخطئ مذهب لا يُعَرَّج عليه " .

قال شهابُ الدِّين{[16669]} : " وقد تقدَّم أنَّ تسكين هاء الكناية لغة ثابتة ، وتقدَّم شواهدها ، فلا حاجةَ إلى الإعادة " .

قوله : " وَأخَاهُ " الأحسنُ أن يكون نسقاً على الهاء في " أرْجِهْ " ويضعف نصبه على المعيَّة لإمكان النَّسق من غير ضعف لَفْظي ولا معنوي .

قال عطاءٌ : " معنى أرْجِهْ أي أخّره " {[16670]} .

وقيل : احبسه وأخاه ، وهو قول قتادة والكَلْبِي ، وهذا ضعيف لوجهين :

أحدهما : أنَّ الإرجاء في اللُّغَةِ هو التَّأخير لا الحبس .

والثاني : أنَّ فرعونَ ما كان قادراً على حبس موسى بعد أنْ شاهد العصا فأشاروا عليه بتأخير أمره وترك التَّعَرُّضِ إليه بالقتل .

قوله : { وَأَرْسِلْ فِي المدائن حَاشِرِينَ } .

" فِي المَدَائِنِ " متعلق ب " أرْسِلُ " ، و " حَاشِرينَ " مفعول به ، ومفعول " حَاشِرِين " محذوفة أي : حاشرين السَّحَرة ، بدليل ما بعده .

و " المَدائِنُ " جمع مَدينَةٍ ، وفيها ثلاثُة أقوال :

أصحها : أنَّ وزنها فعيلة فميمها أصلية وياؤها زائدة مشتقة من مَدُنَ يَمْدُنُ مدوناً أي قام ، واستدلَّ لهذا القول بإطْبَاقِ القراء على همز مدائن كصحيفة وصحائف ، وسفينة وسفائن ، والياء إذا كانت زائدة في الواحد همزت في الجمع كقبائل وقبيلة ، وإذا كانت من نفس الكلمةِ لم تهمز نحو : معايش ومعيشة ، [ ولو كانت مفعلة لم تهمز نحو : مَعِيشَةِ ومعايش ولأنَّهُم جمعوها أيضاً على مُدنٍ كقولهم سفينةٍ وسُفُنٍ وصُحُفٍ ]{[16671]} .

قال أبُو حيَّان{[16672]} : " ويقطعُ بأنَّها فعيلة جمعهم لها على فعل قالوا : مدن كما قالوا صُحْفٌ في صحيفة " .

قال شهابُ الدِّين{[16673]} : " قد قال الزجاجي : المدن في الحقيقةِ جمع المدين ، لأنَّ المدينة لا تُجْمَعْ على مُدُن ولكن على مدائن ومثل هذا سفن كأنهم جمعوا سفينة على سفين ثم جمعوه على سفن " ولا أدري ما حمله على جعل مدن جمع مدين ، ومدين جمع مدينة مع اطَّراد فُعُل على فَعِيلَةٍ لا بمعنى مفعولة ، اللهم إلا أن يكون قد لحظ في مدينة أنَّهَا فعيلة بمعنى مفعولة ؛ لأنَّ معنى المدينةِ أن يمدن فيها أي يقام ، ويُؤيِّدُ هذا ما سيأتي أنَّ مدينة وزنها في الأصْلِ مديونة عند بعضهم .

القول الثاني : أن وزنها مفعلة من دَانَهُ يَدِينُهُ أي ساسه يَسُوسُهُ ، فمعنى مدينة أي مَمْلُوكَة ومسوسة أي مَسُوسٌ أهلها من دانهم ملكهم إذا سَاسَهُم ، وكان ينبغي أن يجمع على مداين بصريح الياء كمعايشَ في مشهور لُغَةِ العَرَبِ .

الثالث : أن وزنها مفعولة ، وهو مَذْهَبُ المبرِّد قال : " هي من دَانَهُ يَدينُهُ إذا ملكه وَقَهَرَهُ ، وإذا كان أصلها مديونة فاستثقَلُوا حركة الضَّمَّة على الياء فسكنوها ، ونقلوا حركتها إلى ما قبلها ، فاجتمع ساكنان : الواو والمزيدة الَّتي هي واو المفعول ، والياء التي هي من نفس الكلمة ، فحذفت الواو ؛ لأنَّها زائدة ، وحذف الزَّائد أولى من حذف الحرف الأصلي ، ثم كَسَرُوا الدَّال لتسليم الياء ، فلا تنقلب واواً لانضمام ما قبلها ، فتختلط ذوات الواو بذوات الياءِ ، وهكذا تقولُ في المبيع والمخيط والمكيل فلاَ ينقلب واواً لانضمام ما قبلها ذوات الواو ، والخلاف جارٍ في المحذوف ، هل هو الياء الأصليّة ؟ أو الواو الزائدة ؟

الأوَّلُ قول الأخْفَشِ ، والثَّاني قول المَازني ، وهو مذهب جماهير النُّحَاةِ .

فصل في تعريف " المدينة "

المدينةُ معروفةٌ ، وهي البُقعةُ المسورة المستولي عليها ملك وأرادَ مدائن صعيدِ مِصْرَِ ، أي : أرسل إلى هذه المدائن رجالاً يحشرون إليك من فيها من السَّحرةِ ، وكان رؤساء السَّحرةِ بأقْصَى مدائن الصَّعيدِ .

ونقل القاضي{[16674]} عن ابن عباس أنَّهُم كانوا سَبْعِينَ سَاحِراً سوى رئيسهم ، وكان الذي يعلمهم رجلي مَجُوسِيِّيْنِ من أهْلِ " نينوى " بلدة يونس - عليه الصَّلاة والسَّلام{[16675]} - ، وهي قرية بالموصل .

قال ابن الخطيب : " وهذا النَّقْلُ مشكل ؛ لأنَّ المَجُوسَ أتباع زرادشت ، وزرادشت إنَّما جاء بعد مُوسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - .


[16657]:ينظر: السبعة 287، 288، والحجة 4/57-60، وإعراب القراءات 1/197-198، والعنوان 96، وحجة القراءات 289-291، وإتحاف 2/56-57.
[16658]:ينظر في هذه القراءات الموضع السابق.
[16659]:ينظر: الحجة 4/58.
[16660]:سقط من أ.
[16661]:ينظر: السبعة ص 288.
[16662]:ينظر: الإملاء 1/281.
[16663]:سقط من أ.
[16664]:سقط من ب.
[16665]:ينظر: الإملاء 1/281.
[16666]:ينظر: الدر المصون 3/318.
[16667]:ينظر: معاني القرآن للزجاج 2/404.
[16668]:تقدم.
[16669]:ينظر: الدر المصون 3/319.
[16670]:أخرجه الطبري في تفسيره 6/19 من طريق عطاء عن ابن عباس وذكره السيوطي في الدر المنثور (3/198) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
[16671]:سقط من أ.
[16672]:ينظر: البحر المحيط 4/360.
[16673]:ينظر: الدر المصون 3/319.
[16674]:ينظر: تفسير الرازي 14/163.
[16675]:ذكره الرازي في تفسيره (14/163).