ولما بين البراهين الدالة على صحة الحق ، وبطلان الباطل ، أخبر تعالى أن هذه سنته وعادته أن { يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ } لأنه بين من الحق في هذا الموضع ، ورد به أقوال المكذبين ، ما كان عبرة للمعتبرين ، وآية للمتأملين .
فإنك كما ترى ، كيف اضمحلت أقوال المكذبين ، وتبين كذبهم وعنادهم ، وظهر الحق وسطع ، وبطل الباطل وانقمع ، وذلك بسبب بيان { عَلَّامُ الْغُيُوبِ } الذي يعلم ما تنطوي عليه القلوب ، من الوساوس والشبه ، ويعلم ما يقابل ذلك ، ويدفعه من الحجج .
ويشتد الإيقاع الثالث وتقصر خطاه :
( قل : إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب ) . .
وهذا الذي جئتكم به هو الحق . الحق القوي الذي يقذف به الله . فمن ذا يقف للحق الذي يقذف به الله ? إنه تعبير مصور مجسم متحرك . وكأنما الحق قذيفة تصدع وتخرق وتنفذ ولا يقف لها أحد في طريق . . يقذف بها الله ( علاّم الغيوب )فهو يقذف بها عن علم ، ويوجهها على علم ، ولا يخفى عليه هدف ، ولا تغيب عنه غاية ، ولا يقف للحق الذي يقذف به معترض ولا سد يعوق . فالطريق أمامه مكشوف ليس فيه مستور !
وقوله { يقذف بالحق } يريد بالوحي وآيات القرآن واستعار له القذف من حيث كان الكفار يرمون بآياته وحكمه ، وقرأ جمهور القراء «علاّمُ » بالرفع أي هو علام ، وقرأ عيسى بن عمر وابن أبي إسحاق «علاّمَ » بالنصب إما على البدل من اسم { إن } وإما على المدح ، وقرأ الأعمش «بالحق هو علام الغيوب » ، وقرأ عاصم «الغِيوب » بكسر الغين .
لا جرم إذ انتهى الاستدلال والمجادلة أن يُنتقل إلى النداء بين ظهرانيهم بظهور الحق فيستغنى عن مجادلتهم .
وأعيد فعل { قل } للاهتمام بالمقول كما أشرنا إليه آنفاً .
والتعبير عن اسم الله بلفظ الرب وإضافته إلى ضمير المتكلم للإِشارة أن الحق في جانبه وأنه تأييد من ربه فإن الرب ينصر مربوبه ويؤيده . فالمراد بالربوبية هنا ربوبية الولاء والاختصاص لا مطلق الربوبية لأنها تعمّ الناس كلهم .
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي للدلالة على الاختصاص دون التقوِّي لأن تقوِّي الجملة حصل بحرف التأكيد . وهذا الاختصاص باعتبار ما في { يقذف بالحق } من معنى : الناصر لي دونَكم فماذا ينفعكم اعتزازكم بأموالكم وأولادكم وقوتكم .
والقذف : إلقاء شيء من اليد ، وأطلق على إظهار الحق قذف على سبيل الاستعارة ، شبه إعلان الحق بإلقاء الحجر ونحوه . والمعنى : أن ربي يقذفكم بالحق .
أو هو إشارة إلى قوله : { بل نقذف بالحق على الباطل } [ الأنبياء : 18 ] وعلى كل فهو تعريض بالتهديد والتخويف من نصر الله المؤمنين على المشركين .
وتخصيص وصف { علام الغيوب } من بين الأوصاف الإِلهية للإِشارة إلى أنه عالم بالنوايا ، وأن القائِل يعلم ذلك فالذي يعلم هذا لا يجترىء على الله بادعائه باطلاً أنه أرسله إليكم ، فالإِعلام بهذه الصفة هنا يشبه استعمال الخبر في لازم فائدتِه وهو العِلم بالحكم الخبري .
ويجوز أن يكون معنى : { يقذف بالحق } يرسل الوحي ، أي على من يشاء من عباده كقوله تعالى : { يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده } [ غافر : 15 ] ويكون قوله { علام الغيوب } إشارة إلى أنه أعلم حيث يجعل رسالاته لأن المشركين كانوا يقولون : لولا أنزلت علينا الملائكة دون محمد .
وارتفع { علام } على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي هو علاّم الغيوب ، أو على أنه نعت لاسم { إنّ } إما مقطوع ، وإما لمراعاة محل اسم { إنّ } حيث إنها استوفت خبرها لأن حكم الصفة حكم عطف النسق عند أكثر النحاة وهو الحق . وقال الفراء : رفع الاسم في مثل هذا هو غالب كلام العرب . ومثَّله بالبدل في قوله تعالى : { إن ذلك لحق تخاصم أهل النار } [ ص : 64 ] .
وقرأ الجهور { الغيوب } بضم الغين . وقرأه أبو بكر وحمزة والكسائي بكسر الغين كما جاء الوجهان في بَاء « بيوت » .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قل إن ربي يقذف بالحق} يتكلم بالوحي.
{علام الغيوب} عالم كل غيب، وإذا قال جل وعز عالم الغيب فهو غيب واحد.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا محمد لمشركي قومك "إنّ رَبّي يَقْذِفُ بالحَقّ "وهو الوحي، يقول: ينزله من السماء، فيقذفه إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم "عَلاّمُ الغُيُوبِ" يقول: علام ما يغيب عن الأبصار، ولا مَظْهَر لها، وما لم يكن مما هو كائن، وذلك من صفة الربّ...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{قُلْ إنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} فيه تأويلان: الثاني: بالقرآن، رواه معمر.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يقذف بالحقِّ على باطل أهل الغفلة فتزول حِيَلُهم، ويظهر عَجْزُهم، ويقذف بالحقِّ على أحوال أهل الخِلاف فيضمحل اجتراؤهم، ويحيق بهم شؤمُ معاصيهم، ويقذف بالحقِّ -إذا حضر أصحاب المعاني- على ظُلُماتِ أصحاب الدعاوى فيخمد ثائرتَهم، ويفضحهم في الحال، ويفضح عوارُهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
القذف والرمي: تزجية السهم ونحوه بدفع واعتماد، ويستعاران من حقيقتهما لمعنى الإلقاء ومنه قوله تعالى: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب} [الأحزاب: 26].
أحدهما: يقذف بالحق في قلوب المحقين، وعلى هذا الوجه للآية بما قبلها تعلق، وذلك من حيث إن الله تعالى لما بين رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {إن هو إلا نذير لكم} وأكده بقوله: {قل ما سألتكم من أجر فهو لكم} وكان من عادة المشركين استبعاد تخصيص واحد من بينهم بإنزال الذكر عليه، كما قال تعالى عنهم: {أأنزل عليه الذكر من بيننا} ذكر ما يصلح جوابا لهم فقال: {قل إن ربى يقذف بالحق} أي في القلوب إشارة إلى أن الأمر بيده يفعل ما يريد ويعطي ما يشاء لمن يشاء.
{علام الغيوب} إشارة إلى جواب سؤال فاسد يذكر عليه؛ وهو أن من يفعل شيئا كما يريد من غير اختصاص محل الفعل بشيء لا يوجد في غيره، لا يكون عالما وإنما فعل ذلك اتفاقا، كما إذا أصاب السهم موضعا دون غيره مع تسوية المواضع في المحاذاة فقال: {يقذف بالحق} كيف يشاء وهو عالم بما يفعله وعالم بعواقب ما يفعله فهو يفعل ما يريد، لا كما يفعله الهاجم الغافل عن العواقب، إذ هو علام الغيوب.
الوجه الثاني: أن المراد منه هو أنه يقذف بالحق على الباطل كما قال في سورة الأنبياء: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه} وعلى هذا تعلق الآية بما قبلها أيضا ظاهر؛ وذلك من حيث إن براهين التوحيد لما ظهرت ودحضت شبههم قال:
{قل إن ربى يقذف بالحق} أي على باطلكم، وقوله: {علام الغيوب} على هذا الوجه له معنى لطيف وهو أن البرهان الباهر المعقول الظاهر لم يقم إلا على التوحيد والرسالة، وأما الحشر فعلى وقوعه لا برهان غير إخبار الله تعالى عنه، وعن أحواله وأهواله، ولولا بيان الله بالقول لما بان لأحد بخلاف التوحيد والرسالة، فلما قال: {يقذف بالحق} أي على الباطل، إشارة إلى ظهور البراهين على التوحيد والنبوة قال: {علام الغيوب} أي ما يخبره عن الغيب وهو قيام الساعة وأحوالها فهو لا خلف فيه فإن الله علام الغيوب.
والآية تحتمل تفسيرا آخر وهو أن يقال: {ربى يقذف بالحق} أي ما يقذفه يقذفه بالحق لا بالباطل والباء على الوجهين الأولين متعلق بالمفعول به أي الحق مقذوف وعلى هذا الباء فيه كالباء في قوله: {وقضى بينهم بالحق} وفي قوله: {فاحكم بين الناس بالحق} والمعنى على هذا الوجه هو أن الله تعالى قذف ما قذف في قلب الرسل وهو علام الغيوب يعلم ما في قلوبهم وما في قلوبكم...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{عَلَّامُ الْغُيُوبِ} الذي يعلم ما تنطوي عليه القلوب، من الوساوس والشبه، ويعلم ما يقابل ذلك، ويدفعه من الحجج...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويشتد الإيقاع الثالث وتقصر خطاه: (قل: إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب).. وهذا الذي جئتكم به هو الحق. الحق القوي الذي يقذف به الله. فمن ذا يقف للحق الذي يقذف به الله؟ إنه تعبير مصور مجسم متحرك. وكأنما الحق قذيفة تصدع وتخرق وتنفذ ولا يقف لها أحد في طريق.. يقذف بها الله (علاّم الغيوب) فهو يقذف بها عن علم، ويوجهها على علم، ولا يخفى عليه هدف، ولا تغيب عنه غاية ولا يقف للحق الذي يقذف به معترض ولا سد يعوق. فالطريق أمامه مكشوف ليس فيه مستور!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لا جرم إذ انتهى الاستدلال والمجادلة أن يُنتقل إلى النداء بين ظهرانيهم بظهور الحق فيستغنى عن مجادلتهم. وأعيد فعل {قل} للاهتمام بالمقول كما أشرنا إليه آنفاً. والتأكيد لتحقيق هذا الخبر.
والتعبير عن اسم الله بلفظ الرب وإضافته إلى ضمير المتكلم للإِشارة أن الحق في جانبه وأنه تأييد من ربه فإن الرب ينصر مربوبه ويؤيده؛ فالمراد بالربوبية هنا ربوبية الولاء والاختصاص لا مطلق الربوبية لأنها تعمّ الناس كلهم.
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي للدلالة على الاختصاص دون التقوِّي؛ لأن تقوِّي الجملة حصل بحرف التأكيد، وهذا الاختصاص باعتبار ما في {يقذف بالحق} من معنى: الناصر لي دونَكم فماذا ينفعكم اعتزازكم بأموالكم وأولادكم وقوتكم.
وتخصيص وصف {علام الغيوب} من بين الأوصاف الإِلهية للإِشارة إلى أنه عالم بالنوايا، وأن القائِل يعلم ذلك فالذي يعلم هذا لا يجترىء على الله بادعائه باطلاً أنه أرسله إليكم، فالإِعلام بهذه الصفة هنا يشبه استعمال الخبر في لازم فائدتِه وهو العِلم بالحكم الخبري.
وارتفع {علام} على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هو علاّم الغيوب، أو على أنه نعت لاسم {إنّ} إما مقطوع، وإما لمراعاة محل اسم {إنّ} حيث إنها استوفت خبرها لأن حكم الصفة حكم عطف النسق عند أكثر النحاة وهو الحق. وقال الفراء: رفع الاسم في مثل هذا هو غالب كلام العرب.
لك أنْ تلحظ هنا حدة الأسلوب، خلافاً للآيات السابقة التي كانت تعظهم وتتودد إليهم، وكأن الحق سبحانه يقول لهم: لا تظنّوا أننا سنظل نتودد إليكم، أو أنكم الذين ستسيِّرون المراكب، فالدين سيُظهِره الله رغم عنادكم، والحق سيعلو رغم كفركم.
فقال سبحانه: {قُلْ} أي: ردًّا عليهم {إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} فبعد أنْ أعطاكم الفرصة، وبعد أنْ طال تمردكم، فالآن ربي سيقذف بالحق، كما قال سبحانه في موضع آخر {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18].
والقذف: الرمي بشدة، وهي كلمة تُوحِي بالعنف والقوة، إنْ جاءت من البشر، فما بالك إنْ كان القذف من الله، والمقذوف من الله هو الحق، والحق كما قلنا هو الشيء الثابت الذي لا يتغير.
والقذف لا بُدَّ أنْ له غرضاً وغاية، ومَنْ أراد أنْ يقذف شيئاً عليه أنْ يُحدِّد المسافة لقريب أم لبعيد، فإن كان لقريب فقلَّما يخطىء القاذفُ المقذوفَ، وإنْ كان القذف لهدف بعيد فاحتمال الخطأ أكثر، وهكذا كلما بَعُدَتْ المسافة؛ لأن معنى القذف تحديد موضع لتصل القذيفةُ إليه، وتصيب الغايةَ المقصودة منها.
وعندما يكون الموضع قريباً، فالتغيرات التي ستطرأ عليه قليلة؛ لأن زمن وصول القذيفة إليه قصير، على خلاف الهدف إنْ كان بعيداً فهو عُرْضة لأنْ يتغير، فتختلف مثلاً زاويته بسبب الريح، أو الأعاصير أو خلافه؛ لذلك نحتاج في هذه الحالة إلى أجهزة وحسابات دقيقة تحسب بُعْد الهدف وقوة المقذوف، وقوة الريح أي: تتصادم معه وغير ذلك من حسابات السرعة والزمن، كالذي يرمي الطير مثلاً وهو في الهواء، لا بُدَّ أنْ يغير نقطة التنشين لتناسب حركةَ واتجاه الطائر.
ولا أَقْدَر على هذه العملية من علاَّم الغيوب سبحانه، الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض؛ لذلك جاء الحق سبحانه بالصفة التي تناسب الدقة في هذه العملية، فقال: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} فهو سبحانه أولاً يقذف بالحق، وقذيفته سبحانه لا تخطىء هدفاً؛ لأنه تعالى علاَّم الغيوب.
والحق الذي يقذف الله به هو المنهج الذي أنزله من السماء يقذفه لغاية وهي الرسالة، كما قال سبحانه:
{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124].
إذن: القاذف هو الله، والمقذوف الحق، وهو الشيء الثابت الذي لا يتغير، والغاية المقصودة هي وصول الرسالة إلى مَن اختاره الله لها، وهذه العملية لا تخطىء؛ لأن القاذف عالم بكلِّ غيب يؤثر على مسار المقذوف، فالحق لا بُدَّ أنْ يصل إلى صاحبه المختار له والمصطفى لحمله، لا إلى سواه...
وكلمة {الْغُيُوبِ} هنا تدل على كثرة المؤثرات التي يمكن أن تعترض القذيفة، فتُحول بينها وبين هدفها، وهذه المؤثرات لا يعلمها إلا الله.
فإنْ قلت: الفعل يقذف جاء في صيغة المضارع الدال على الحال والاستقبال، يعني: أن الحق سبحانه عمله أنه يقذف بالحق إلى الرسل، فهل قذفه إلى رسول الله؟
تأتي الإجابة في قوله تعالى في الآية بعدها: {قُلْ جَآءَ الْحَقُّ..} [سبأ: 49]
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
كلمة «يقذف» من مادّة (قذف) وهو الرمي البعيد، وثمّة تفسيرات متعدّدة لهذه الآية، يمكن جمعها مع بعضها البعض... ويحتمل أن يكون المقصود بتعبير «القذف» هنا هو نفوذ حقّانية القرآن إلى نقاط العالم القريبة والبعيدة، وهي إشارة إلى أنّ هذا الوحي السماوي سيضيء جميع العالم بنوره في نهاية الأمر...