ويوحي سياق القصة بعد ذلك أنهم لم يمهلوه أن قتلوه . وإن كان لا يذكر شيئاً من هذا صراحة . إنما يسدل الستار على الدنيا وما فيها ، وعلى القوم وما هم فيه ؛ ويرفعه لنرى هذا الشهيد الذي جهر بكلمة الحق ، متبعاً صوت الفطرة ، وقذف بها في وجوه من يملكون التهديد والتنكيل . نراه في العالم الآخر . ونطلع على ما ادخر الله له من كرامة . تليق بمقام المؤمن الشجاع المخلص الشهيد :
( قيل : ادخل الجنة . قال : يا ليت قومي يعلمون . بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين ) . .
وتتصل الحياة الدنيا بالحياة الآخرة . ونرى الموت نقلة من عالم الفناء إلى عالم البقاء . وخطوة يخلص بها المؤمن من ضيق الأرض إلى سعة الجنة . ومن تطاول الباطل إلى طمأنينة الحق . ومن تهديد البغي إلى سلام النعيم . ومن ظلمات الجاهلية إلى نور اليقين .
{ قيل ادخل الجنة } قيل له ذلك لما قتلوه بشرى له بأنه من أهل الجنة ، أو إكراما وإذنا في دخولها كسائر الشهداء ، أو لما هموا بقتله رفعه الله إلى الجنة على ما قاله الحسن وإنما لم يقل له لأن الغرض بيان المقول دون المقول له فإنه معلوم ، والكلام استئناف في حيز الجواب عن السؤال عن حاله عند لقاء ربه بعد تصليه في نصر دينه وكذلك : { قال يا ليت قومي يعلمون } .
فقيل له عند موته { ادخل الجنة } وذلك والله أعلم بأن عرض عليه مقعده منها ، وتحقق أنه من ساكنيها برؤيته ما أقر عينه ، فلما تحصل له ذلك تمنى أن يعلم قومه بذلك ، وقيل أراد بذلك الإشفاق والتنصح لهم ، أي لو علموا بذلك لآمنوا بالله تعالى ، وقيل أراد أن يعلموا ذلك فيندموا على فعلهم به ويحزنهم ذلك ، وهذا موجود في جبلة البشر إذا نال خيراً في بلد غربة ود أن يعلم ذلك جيرانه وأترابه الذين نشأ فيهم ولا سيما في الكرامات ، ونحو من ذلك قول الشاعر :
والعز مطلوب وملتمس . . . وأحبه ما نيل في الوطن
قال القاضي أبو محمد : والتأويل الأول أشبه بهذا العبد الصالح ، وفي ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم «نصح قومه حياً وميتاً »{[2]} ، وقال قتادة بن دعامة : نصحهم على حالة الغضب والرضى ، وكذلك لا تجد المؤمن إلا ناصحاً للناس ، و «ما » في قوله تعالى : { بما } يجوز أن تكون مصدرية أي بغفران ربي لي ، ويجوز أن تكون بمعنى الذي ، وفي غفر ضمير عائد محذوف قال الزهراوي : ويجوز أن يكون استفهاماً ثم ضعفه{[3]} .
استئناف بياني لما ينتظره سامع القصة من معرفة ما لقيه من قومه بعد أن واجههم بذلك الخطاب الجَزل . وهل اهتدوا بهديه أو أعرضوا عنه وتركوه أو آذوه كما يُؤذَى أمثاله من الداعين إلى الحق المخالفين هوَى الدهمَاء فيجاب بما دل عليه قوله : { قيل ادخل الجنة } وهو الأهم عند المسلمين وهم من المقصودين بمعرفة مثل هذا ليزدادوا يقيناً وثباتاً في إيمانهم ، وأما المشركون فحظهم من المَثل ما تقدم وما يأتي من قوله : { إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون } [ يس : 29 ] .
وفي قوله : { قيل ادخل الجنة } كناية عن قتله شهيداً في إعلاء كلمة الله لأن تعقيب موعظته بأمره بدخول الجنة دفعة بلا انتقال يفيد بدلالة الاقتضاء أنه مات وأنهم قتلوه لمخالفته دينهم ، قال بعض المفسرين : قتلوه رجماً بالحجارة ، وقال بعضهم : أحرقوه ، وقال بعضهم : حفروا له حفرة وردموه فيها حيّاً .
وإن هذا الرجل المؤمن قد أُدخل الجنة عقب موته لأنه كان من الشهداء والشهداء لهم مزية التعجيل بدخول الجنة دخولاً غير موسع . ففي الحديث : « إن أرواحَ الشهداء في حواصل طيور خُضرٍ تأكل من ثمار الجنة » .
والقائل : { ادخل الجنة } هو الله تعالى .
والمقولُ له هو الرجل الذي جاء من أقصى المدينة وإنما لم يذكر ضمير المقول له مجروراً باللام لأن القول المذكور هنا قول تكويني لا يقصد منه المخاطب به بل يقصد حكاية حصوله لأنه إذا حصل حصل أثره كقوله تعالى : { أن نقول له كن فيكون } [ النحل : 40 ] .
وإذ لم يقَصَّ في المثَل أنه غادر مَقامه الذي قام فيه بالموعظة كان ذلك إشارة إلى أنه مات في مقامه ذلك ، ويفهم منه أنه مات قتيلاً في ذلك الوقت أو بإثره .
وإنما سلك في هذا المعنى طريق الكناية ولم يصرح بأنهم قتلوه إغماضاً لهذا المعنى عن المشركين كيلا يسرّهم أن قومه قتلوه فيجعلوه من جملة ما ضرب به المثل لهم وللرسول صلى الله عليه وسلم فيطمعوا فيه أنهم يقتلون الرسول صلى الله عليه وسلم فهذه الكناية لا يفهمها إلا أهل الإِسلام الذين تقرر عندهم التلازم بين الشهادة في سبيل الله ودخول الجنة ، أما المشركون فيحسبون أن ذلك في الآخرة . وقد تكون في الكلام البليغ خصائص يختص بنفعها بعض السامعين .
وجملة { قال يا ليت قومي يعلمون } مستأنفة أيضاً استئنافاً بيانياً لأن السامع يترقب ماذا قال حين غمره الفرح بدخول الجنة . والمعنى : أنه لم يُلهِه دخوله الجنة عن حال قومه ، فتمنى أن يعلموا ماذا لقي من ربه ليعلموا فضيلة الإِيمان فيؤمنوا وما تمنّى هلاكهم ولا الشماتة بهم فكان متّسِماً بكظم الغيظ وبالحلم على أهل الجهل ، وذلك لأن عالم الحقائق لا تتوجه فيه النفس إلا إلى الصلاح المحض ولا قيمة للحظوظ الدنية وسفساف الأمور .
وأدخلت الباء على مفعول { يعلمون } لتضمينه معنى : يُخبَرون ، لأنه لا مطمع في أن يحصل لهم علم ذلك بالنظر والاستدلال .