{ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى } لأن كتاب موسى أصل للإنجيل وعمدة لبني إسرائيل في أحكام الشرع ، وإنما الإنجيل متمم ومكمل ومغير لبعض الأحكام .
{ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي } هذا الكتاب الذي سمعناه { إِلَى الْحَقِّ } وهو الصواب في كل مطلوب وخبر { وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ } موصل إلى الله وإلى جنته من العلم بالله وبأحكامه الدينية وأحكام الجزاء .
فلما انتهت التلاوة لم يلبثوا أن سارعوا إلى قومهم ، وقد حملت نفوسهم ومشاعرهم منه ما لا تطيق السكوت عليه ، أو التلكؤ في إبلاغه والإنذار به . وهي حالة من امتلأ حسه بشيء جديد ، وحفلت مشاعره بمؤثر قاهر غلاب ، يدفعه دفعا إلى الحركة به والاحتفال بشأنه ، وإبلاغه للآخرين في جد واهتمام :
( قالوا : يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى ، مصدقا لما بين يديه ، يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ) . .
ولوا إلى قومهم مسارعين يقولون لهم : إنا سمعنا كتابا جديدا أنزل من بعد موسى ، يصدق كتاب موسى في أصوله . فهم إذن كانوا يعرفون كتاب موسى ، فأدركوا الصلة بين الكتابين بمجرد سماع آيات من هذا القرآن ، قد لا يكون فيها ذكر لموسى ولا لكتابه ، ولكن طبيعتها تشي بأنها من ذلك النبع الذي نبع منه كتاب موسى . وشهادة هؤلاء الجن البعيدين - نسبيا - عن مؤثرات الحياة البشرية ، بمجرد تذوقهم لآيات من القرآن ، ذات دلالة وذات إيحاء عميق .
ثم عبروا عما خالج مشاعرهم منه ، وما أحست ضمائرهم فيه ، فقالوا عنه :
( يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ) . .
ووقع الحق والهدى في هذا القرآن هائل ضخم ، لا يقف له قلب غير مطموس ؛ ولا تصمد له روح غير معاندة ولا مستكبرة ولا مشدودة بالهوى الجامح اللئيم . ومن ثم لمس هذه القلوب لأول وهلة ، فإذا هي تنطق بهذه الشهادة ، وتعبر عما مسها منه هذا التعبير .
ثم إنه تعالى فسر إنذار الجن لقومهم فقال مخبرًا عنهم : { قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى [ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ] } {[26590]} ، ولم يذكروا عيسى ؛ لأن عيسى ، عليه السلام ، أنزل عليه الإنجيل فيه مواعظ وترقيقات وقليل من التحليل والتحريم ، وهو في الحقيقة كالمتمم لشريعة التوراة ، فالعمدة هو التوراة ؛ فلهذا قالوا : أنزل من بعد موسى . وهكذا قال ورقة بن نوفل ، حين أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بقصة نزول جبريل [ عليه السلام ] {[26591]} عليه أول مرة ، فقال : بَخ بَخ ، هذا الناموس الذي كان يأتي موسى ، يا ليتني أكون فيها جَذَعًا .
{ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي : من الكتب المنزلة قبله على الأنبياء . وقولهم : { يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ } أي : في الاعتقاد والإخبار ، { وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ } في الأعمال ، فإن القرآن يشتمل على شيئين {[26592]} خبر وطلب{[26593]} ، فخبره صدق ، وطلبه عدل ، كما قال : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا } [ الأنعام : 115 ] ، وقال { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ } [ التوبة : 33 ] ، فالهدى هو : العلم النافع ، ودين الحق : هو العمل الصالح . وهكذا قالت الجن : { يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ } في الاعتقادات ، { وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ } أي : في العمليات .
وجملة { قالوا يا قومنا } إلى آخرها مبينة لقوله : { منذرين } . وحكاية تخاطب الجن بهذا الكلام الذي هو من كلام عربي حكاية بالمعنى إذ لا يعرف أن للجن معرفة بكلام الإنس ، وكذلك فعل { قالوا } مجاز عن الإفادة ، أي أفادوا جنسهم بما فهموا منه بطرق الاستفادة عندهم معانيَ ما حكي بالقول في هذه الآية كما في قوله تعالى : { قالت نملة يأيها النمل ادخلوا مساكنكم } [ النمل : 18 ] . وابتدأوا إفادتهم بأنهم سمعوا كتاباً تمهيداً للغرض من الموعظة بذكر الكتاب ووصفه ليستشرفَ المخاطبون لما بعد ذلك .
ووصْف الكتاب بأنه { أنزل من بعد موسى } دون : أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم لأن « التوراة » آخر كتاب من كتب الشرائع نزل قبل القرآن ، وأما ما جاء بعده فكتب مكملة للتوراة ومبينة لها مثل « زبور داود » و« إنجيل عيسى » ، فكأنه لم ينزل شيء جديد بعد « التوراة » فلما نَزل القرآن جاء بهدي مستقل غير مقصود منه بيان التوراة ولكنه مصدق للتوراة وهادٍ إلى أزيد مما هدت إليه « التوراة » .
و{ ما بين يديه } : ما سبقه من الأديان الحق . ومعنى { يهدي إلى الحق } : يهدي إلى الاعتقاد الحق ضد الباطل من التوحيد وما يجب لله تعالى من الصفات وما يستحيل وصفه به .
والمراد بالطريق المستقيم : ما يسلك من الأعمال والمعاملة . وما يترتب على ذلك من الجزاء ، شبه ذلك بالطريق المستقيم الذي لا يضل سالكه عن القصد من سيره . ويجوز أن يراد ب { الحق } ما يشمل الاعتقاد والأعمال الصالحة ويراد بالطريق المستقيم الدلائل الدالة على الحق وتزييف الباطل فإنها كالصراط المستقيم في إبلاغ متبعها إلى معرفة الحق .