ولكن آدم كان غفلا من التجارب . وهو يحمل الضعف البشري تجاه الرغبة في البقاء والرغبة في السلطان . ومن هذه الثغرة نفذ إليه الشيطان :
( فوسوس إليه الشيطان قال : يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى ? )
لقد لمس في نفسه الموضع الحساس ، فالعمر البشري محدود ، والقوة البشرية محدودة . من هنا يتطلع إلى الحياة الطويلة وإلى الملك الطويل ، ومن هاتين النافذتين يدخل عليه الشيطان ، وآدم مخلوق بفطرة البشر وضعف البشر ، لأمر مقدور وحكمة مخبوءة . . ومن ثم نسي العهد ، وأقدم على المحظور :
وقوله : { فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى } قد تقدم أنه{[19527]} { دَلاهُمَا بِغُرُور } [ الأعراف : 22 ] ؛ { وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ } [ الأعراف : 21 ] . وقد تقدم أن الله تعالى أوحى إلى آدم وزوجته أن يأكلا من كل الثمار ، ولا يقربا هذه الشجرة المعينة في الجنة . فلم يزل بهما إبليس حتى أكلا منها ، وكانت شجرةَ الخلد - يعني : التي من أكل منها خلد ودام مكثه . وقد جاء في الحديث ذكر شجرة الخلد ، فقال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة عن أبي الضحاك{[19528]} سمعت أبا هريرة يحدث ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ، ما يقطعها وهي شجرة الخلد " . ورواه الإمام أحمد{[19529]} .
و «وسوسة الشيطان » قيل كانت دون مشافهة ، إلقاء في النفس ، وقيل بل كان بالمشافهة والمخاطبة وهو ظاهر القصة من غير ما موضع وكان دخوله إلى الجنة فيما روي في فم الحية ، وكان آدم عليه السلام قد قال الله تعالى له لا تأكل من هذه الشجرة وعين له شجرة قد تقدم الخلاف في جنسها فلما وصفها له إبليس بأنها { شجرة الخلد وملك لا يبلى } أي من أكلها كان ملكاً مخلداً عمد آدم إلى غير تلك التي نهي عنها من جنسها فأكلها بتأويل أن النهي كان في تلك المعينة ، وقيل بل تأول أن النهي إنما كان على الندب لا على التحريم البت ، وسارعت إلى ذلك حواء وكانت معه في النهي فلما رآها آدم قد أكلت أكل فطارت عنهما ثيابهما ، وظهر تبري الأشياء منهما وبدت سوءاتهما .
قوله { فوسوس إليه الشيطان } تقدم مثله في الأعراف . والفاء لتعقيب مضمون جملتها على مضمون التي قبلها ، وهو تعقيب نسبي بما يناسب مدّة تقلب في خلالها بخيرات الجنة حتى حسده الشيطان واشتد حسده .
وتعدية فعل ( وسوس ) هنا بحرف ( إلى ) وباللام في سورة الأعراف ( 20 ) { فوسوس لهما الشيطان } باعتبار كيفية تعليق المجرور بذلك الفعل في قصد المتكلّم ، فإنه فعل قاصر لا غنى له عن التعدية بالحرف ، فتعديته بحرف ( إلى ) هنا باعتبار انتهاء الوسوسة إلى آدم وبلوغها إياه ، وتعديته باللاّم في الأعراف باعتبار أن الوسوسة كانت لأجلهما .
وجملة { قَالَ يَا آدَمِ } [ طه : 117 ] بيان لجملة { فوسوس لهما الشيطان } . وهذه الآية مثال للجملة المبيّنة لغيرها في علم المعاني .
وهذا القول خاطر ألقاه الشيطان في نفس آدم بطريق الوسوسة وهي الكلام الخفي ؛ إما بألفاظ نطق بها الشيطان سراً لآدم لئلا يطّلع عليه الملائكة فيحذروا آدم من كيد الشيطان ، فيكونُ إطلاق القول عليه حقيقة ؛ وإما بمجرد توجه أراده الشيطان كما يوسوس للناس في الدنيا ، فيكون إطلاق القول عليه مجازاً باعتبار المشابهة .
و { هَلْ أدُلُّكَ } استفهام مستعمل في العَرض ، وهو أنسب المعاني المجازية للاستفهام لقربه من حقيقته .
والافتتاح بالنداء ليتوجه إليه .
والشجرة هي التي نهاه الله عن الأكل منها دون جميع شجر الجنّة ، ولم يُذكر النهي عنها هنا وذكر في قصة سورة البقرة . وهذا العرض متقدم على الإغراء بالأكل منها المحكي في قوله تعالى في سورة الأعراف ( 20 ) { قال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين } ، ولم يدله الشيطان على شجرة الخلد بل كذبه ودله على شجرة أخرى بآية أن آدم لم يخلّد ، فحصل لآدم توهم أنه إذا أكل من الشجرة التي دله عليها الشيطان أن يخلد في الحياة .
والدلالة : الإرشاد إلى شيء مطلوب غير ظاهر لطالبه ، والدلالة على الشجرة لقصد الأكل من ثمرتها .
وسماها هنا شجرة الخلد } بالإجمال للتشويق إلى تعيينها حتى يُقبِل عليها ، ثم عيّنها له عقب ذلك بما أنبأ به قوله تعالى : { فأكلا منها } [ طه : 121 ] .
وقد أفصح هذا عن استقرار محبّة الحياة في جبلة البشر .
والمُلك : التحرر من حكم الغير ، وهو يوهم آدم أنه يصير هو المالك للجنة المتصرّف فيها غير مأمور لآمر .
واستعمل البِلى مجازاً في الانتهاء ، لأنّ الثوب إذا بلي فقد انتهى لبسه .