ثم يستثني من لا حيلة لهم في البقاء في دار الكفر ؛ والتعرض للفتنة في الدين ؛ والحرمان من الحياة في دار الإسلام من الشيوخ الضعاف ، والنساء والأطفال ؛ فيعلقهم بالرجاء في عفو الله ومغفرته ورحمته . بسبب عذرهم البين وعجزهم عن الفرار :
( إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان ، لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا . فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم ، وكان الله عفوا غفورًا ) . .
ويمضي هذا الحكم إلى آخر الزمان ؛ متجاوزا تلك الحالة الخاصة التي كان يواجهها النص في تاريخ معين ، وفي بيئة معينة . . يمضي حكما عاما ؛ يلحق كل مسلم تناله الفتنة في دينه في أية أرض ؛ وتمسكه أمواله ومصالحه ، أو قراباته وصداقاته ؛ أو إشفاقه من آلام الهجرة ومتاعبها . متى كان هناك - في الأرض في أي مكان - دار للإسلام ؛ يأمن فيها على دينه ، ويجهر فيها بعقيدته ، ويؤدي فيها عباداته ؛ ويحيا حياة إسلامية في ظل شريعة الله ، ويستمتع بهذا المستوى الرفيع من الحياة . .
وقوله : { إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ [ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا{[8150]} ] } هذا عذر من الله تعالى لهؤلاء في ترك الهجرة ، وذلك أنهم لا يقدرون على التخلص من أيدي المشركين ، ولو قدروا ما عرفوا يسلكون الطريق ، ولهذا قال : { لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا } قال مجاهد وعكرمة ، والسدي : يعني طريقا .
{ إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان } استثناء منقطع لعدم دخولهم في الموصول وضميره والإشارة إليه ، وذكر الولد إن أريد به المماليك فظاهر ، وإن أريد به الصبيان فللمبالغة في الأمر والإشعار بأنهم على صدد وجوب الهجرة ، فإنهم إذا بلغوا وقدروا على الهجرة فلا محيص لهم عنها وأن قوامهم يجب عليهم أن يهاجروا بهم متى أمكنت . { لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا } صفة للمستضعفين إذ لا توقيت فيه ، أو حال منه أو من المستكن فيه ، واستطاعة الحيلة وجدان أسباب الهجرة وما تتوقف عليه ، واهتداء السبيل معرفة الطريق بنفسه أو بدليل .
ثم استثنى منهم من كان استضعافه على حقيقة من زمنة الرجال وضعفة النساء والولدان ، كعياش بن أبي ربيعة والوليد بن هشام وغيرهما ، قال ابن عباس : كنت أنا وأمي من المستضعفين ، هي من النساء وأنا من الولدان{[4233]} ، والحيلة : لفظ عام لأسباب أنواع التخلص ، و «السبيل » : سبيل المدينة فيما ذكر مجاهد والسدي وغيرهما والصواب أنه عام في جميع السبل .
قوله : { إلاّ المستضعفين } استثناء من الوعيد ، والمعنى إلاّ المستضعفين حقّاً ، أي العاجزين عن الخروج من مكة لقلّة جهد ، أو لإكراه المشركين إيّاهم وإيثاقهم على البقاء : مثل عيّاش بن أبي ربيعة المتقدّم خبره في قوله تعالى : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ خطئاً } [ النساء : 92 ] ، ومثل سلمة بن هشام ، والوليد بن الوليد . وفي « البخاري » أنّ رسول الله كان يدعو في صلاة العشاء : « اللهمّ نجّ عيّاش بن أبي ربيعة اللهمّ نجّ الوليد بن الوليد ، اللهمّ نجّ سلمة بن هشام اللهمّ نجّ المستضعفين من المؤمنين » . وعن ابن عباس : كنتُ أنا وأميّ من المستضعفين .
والتبيين بقوله : { من الرجال والنساء والولدان } لقصد التعميم . والمقصد التنبيه على أنّ من الرجال مستضعفين ، فلذلك ابتدىء بذكرهم ثم ألحق بذكرهم النساء والصبيان لأنّ وجودهم في العائلة يكون عذراً لوليّهم إذا كان لا يجد حيلة . وتقدّم ذكرهم بقوله تعالى : { وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان } [ النساء : 75 ] ، وإعادة ذكرهم هنا ممّا يؤكّد أن تكون الآيات كلّها نزلت في التهيئة لفتح مكة .
وجملة : { لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً } حال من المستضعفينَ موضّحة للاستضعاف ليظهر أنّه غير الاستضعاف الذي يقوله الذين ظلموا أنفسهم { كُنَا مستضعفين في الأرض } ، أي لا يستطيعون حيلة في الخروج إمّا لمنع أهل مكة إيّاهم ، أو لفقرهم : { ولا يهتدون سبيلاً } أي معرفة للطريق كالأعمى .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.