البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِلَّا ٱلۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلۡوِلۡدَٰنِ لَا يَسۡتَطِيعُونَ حِيلَةٗ وَلَا يَهۡتَدُونَ سَبِيلٗا} (98)

{ إلا المستضعفين من الرّجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً } من الرجال جماعة ، كعياش بن أبي زمعة ، وسلمة بن هشام ، والوليد بن الوليد .

ومن النساء جماعة : كأمّ الفضل أمامة بنت الحرث أم عبد الله بن عباس .

ومن الولدان : عبد الله بن عباس وغيره .

فإنْ أريد بالولدان العبيد والإماء البالغون فلا إشكال في دخولهم في المستثنين ، وإن أريد بالولدان الأطفال فهم لا يكونون إلا عاجزين فلا يتوجه عليهم وعيد ، بخلاف الرّجال والنساء قد يكونون عاجزين ، وقد يكونون غير عاجزين .

وإنما ذكروا مع الرّجال والنساء وإنْ كانوا لا يتوجه عليهم الوعيد باعتبار أنَّ عجزهم هو عجز لآبائهم الرّجال والنساء ، لأنَّ من أقوى أسباب العجز وعدم الحنكة وكون الرّجال والنساء مشغولين بأطفالهم ، مشغوفين بهم ، فيعجزون عن الهجرة بسبب خوف ضياع أطفالهم وولدانهم .

فذكر الولدان في المستثنين تنبيه على أعظم طرق العجز للرّجال والنساء ، لأن طرق العجز لا تنحصر ، فنبه بذكر عجز الولدان على قوة عجز الآباء والأمهات بسببهم .

قال الزمخشري : ويجوز أن يراد المراهقون منهم الذين عقلوا ما يعقل الرّجال والنساء ، فيلحقوا بهم في التكليف انتهى .

وليس بجيد ، لأنّ المراهق لا يلحق بالمكلف أصلاً ، ولا وعيد عليه ما لم يكلف .

وقيل : يحتمل أن يراد بالمستضعفين أسرى المسلمين الذين هم في أيدي المشركين لا يستطيعون حيلة إلى الخروج ، ولا يهتدون إلى تخليص أنفسهم .

وهذا الاستثناء قال الزجاج : هو من قوله : { مأواهم جهنم } .

قال غيره : كأنه قيل : فأولئك في جهنم إلا المستضعفين ، فعلى هذا استثناء متصل .

والذي يقتضيه النظر أنه استثناء منقطع ، لأن قوله : { إن الذين توفاهم الملائكة } إلى آخره يعود الضمير في مأواهم إليهم .

وهم على أقوال المفسرين إما كفار ، وإما عصاة بالتخلف عن الهجرة وهم قادرون ، فلم يندرج فيهم المستضعفون المستثنون لأنهم عاجزون ، فهو منقطع لا يستطيعون حيلة ، ولا يهتدون سبيلاً .

الحيلة : لفظ عام لأنواع أسباب التخلص .

والسبيل هنا طريق المدينة قاله : مجاهد ، والسدي .

وغيرهما .

قال ابن عطية : والصواب أنه عام في جميع السبل ، يعني المخلصة من دار الكفر انتهى .

وقيل : لا يعرفون طريقاً إلى الخروج ، وهذه الجملة قيل ؛ مستأنفة .

وقيل : في موضع الحال .

وقال الزمخشري : صفة للمستضعفين ، أو الرّجال والنساء والولدان .

قال : وإنما جاز ذلك والجمل نكرات ، لأن الموصوف وإن كان فيه حرف التعريف فليس بشيء بعينه كقوله :

ولقد أمر على اللئيم يسبني *** انتهى كلامه .

وهو تخريج ذهب إلى مثله بعض النحويين في قوله تعالى : { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار } وهو هدم للقاعدة المشهورة : بأن النكرة لا تنعت إلا بالنكرة ، والمعرفة لا تنعت إلا بالمعرفة .

والذي يظهر أنها جملة مفسرة لقوله : المستضعفين ، لأنها في معنى : «إلا الذين استضعفوا فجاء بياناً وتفسيراً لذلك ، لأنّ الاستضعاف يكون بوجوه ، فبين جهة الاستضعاف النافع في التخلف عن الهجرة وهي عدم استطاعة الحيلة وعدم اهتداء السبيل .

والثاني مندرج تحت الأول ، لأنه يلزم من انتفاء القدرة على الحيلة التي يتخلص بها انتفاء اهتداء السبيل .

وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى مسلمي مكة بهذه الآية ، فقال جندب بن ضمرة الليثي : ويقال : جندع بالعين ، أو ضمرة بن جندب لبنيه : احملوني فإني لست من المستضعفين ، وإني لأهتدي الطريق ، والله لا أبيت الليلة بمكة ، فحملوه على سرير متوجهاً إلى المدينة ، وكان شيخاً كبيراً فمات بالتنعيم .

/خ100