ثم ننظر فنشهد حركة القوم في تلك القرى وبأس الله يأخذهم ، وهم كالفيران في المصيدة يضطربون من هنا إلى هناك قبيل الخمود :
( فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون ) . .
يسارعون بالخروج من القرية ركضا وعدوا ، وقد تبين لهم أنهم مأخوذون ببأس الله . كأنما الركض ينجيهم من بأس الله . وكأنما هم أسرع عدوا فلا يلحق بهم حيث يركضون ! ولكنها حركة الفأر في المصيدة بلا تفكير ولا شعور .
وقوله : فَلَمّا أحَسّوا بأْسَنا يقول : فلما عاينوا عذابنا قد حلّ بهم ورأوه قد وجدوا مَسّه ، يقال منه : قد أحْسَسْتُ من فلان ضعفا ، وأَحَسْتُه منه . إذَا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ يقول : إذا هم مما أحَسّوا بأسنا النازل بهم يهربون سراعا عَجْلىَ يَعْدُون منهزمين ، يقال منه : ركض فلان فَرَسَهُ : إذا كَدّه بسياقته .
وقوله تعالى : { فلما أحسوا } وصف عن قرية من القرى المجملة أولاً قيل كانت باليمن تسمى حصورا بعث الله تعالى إلى أهلها رسولاً فقتلوه ، فأرسل الله تعالى بخت نصر صاحب بني إسرائيل فهزموا جيشه مرتين ، فنهض في الثالثة بنفسه فلما مزقهم وأخذ القتل فيهم ركضوا هاربين ، ويحتمل أن لا يريد بالآية قرية بعينها وأنه واصف حال كل قرية من القرى المعذبة وأن أهل كل قرية كانوا إذا أحسوا العذاب من أي نوع كان أخذوا في الفرار . و { أحسوا } باشروه بالحواس ، و «الركض » تحريك القدم على الصفة المعهودة ، فالفار والجاري بالجملة راكض إما دابة وإما الأرض تشبيهاً بالدابة .
جملة { وأنشأنا بعدها قوماً آخرين } معترضة بين جملة { وكم قصمنا من قرية } وجملة { فلما أحسوا بأسنا } الخ . فجملة { فلما أحسوا بأسنا } الخ تفريع على جملة { وكم قصمنا من قرية } .
وضمير { منها } عائد إلى { قرية } .
والإحساس : الإدراك بالحس فيكون برؤية ما يزعجهم أو سماع أصوات مؤذنة بالهلاك كالصواعق والرياح .
والبأس : شدة الألم والعذاب . وحرف ( مِن ) في قوله منها يركضون } يجوز أن يكون للابتداء ، أي خارجين منها ، ويجوز أن يكون للتعليل بتأويل ( يركضون ) معنى ( يهربون ) ، أي من البأس الذي أحسوا به فلا بدّ من تقدير مضاف ، أي من بأسنا الذي أحسوه في القرية .
وذلك بحصول أشراط إنذار مثل الزلازل والصواعق .
والركض : سرعة سير الفرس ، وأصله الضرب بالرّجل فيسمى به العدو ، لأن العدو يقتضي قوة الضرب بالرّجل وأطلق الركض في هذه الآية على سرعة سير الناس على وجه الاستعارة تشبيهاً لسرعة سيرهم بركض الأفراس .
و { منها } ظرف مستقر في موضع الحال من الضمير المنفصل المرفوع .
ودخلت ( إذا ) الفجائية في جواب ( لما ) للدلالة على أنهم ابتدروا الهروب من شدة الإحساس بالبأس تصويراً لشدة الفزع . وليست ( إذا ) الفجائية برابطة للجواب بالشرط لأن هذا الجواب لا يحتاج إلى رابط ، و ( إذا ) الفجائية قد تكون رابطة للجواب خَلفاً من الفاء الرابطة حيث يحتاج إلى الرابط لأن معنى الفجاءة يصلح للربط ولا يلازمه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فلما أحسوا بأسنا} يقول: فلما رأوا عذابنا {إذا هم منها يركضون}، يقول: إذا هم من القرية يهربون.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"فَلَمّا أحَسّوا بأْسَنا" يقول: فلما عاينوا عذابنا قد حلّ بهم ورأوه قد وجدوا مَسّه... "إذَا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ "يقول: إذا هم مما أحَسّوا بأسنا النازل بهم يهربون سراعا عَجْلىَ يَعْدُون منهزمين...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون} قوله {أحسوا}: قال بعضهم: علموا بالعذاب {إذا هم منها يركضون} أي يفرون، ويهربون.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وقوله "إذا هم منها يركضون "فالركض: العدو بشدة الوطء.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فلما علموا شدّة عذابنا وبطشتنا علم حس ومشاهدة، لم يشكوا فيها، ركضوا من ديارهم. والركض: ضرب الدابة بالرجل، ومنه قوله تعالى: {اركض بِرِجْلِكَ} [ص: 42] فيجوز أن يركبوا دوابهم يركضونها هاربين منهزمين من قريتهم لما أدركتهم مقدمة العذاب، ويجوز أن يشبهوا في سرعة عدوهم على أرجلهم بالراكبين الراكضين لدوابهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ويحتمل أن لا يريد بالآية قرية بعينها وأنه واصف حال كل قرية من القرى المعذبة، وأن أهل كل قرية كانوا إذا أحسوا العذاب من أي نوع كان أخذوا في الفرار.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {وأنشأنا بعدها قوماً آخرين} معترضة بين جملة {وكم قصمنا من قرية} وجملة {فلما أحسوا بأسنا} الخ. فجملة {فلما أحسوا بأسنا} الخ تفريع على جملة {وكم قصمنا من قرية}.
والإحساس: الإدراك بالحس فيكون برؤية ما يزعجهم أو سماع أصوات مؤذنة بالهلاك كالصواعق والرياح.
والبأس: شدة الألم والعذاب. وحرف (مِن) في قوله "منها يركضون "يجوز أن يكون للابتداء، أي خارجين منها، ويجوز أن يكون للتعليل بتأويل (يركضون) معنى (يهربون)، أي من البأس الذي أحسوا به فلا بدّ من تقدير مضاف، أي من بأسنا الذي أحسوه في القرية وذلك بحصول أشراط إنذار مثل الزلازل والصواعق.
والركض: سرعة سير الفرس، وأصله الضرب بالرّجل فيسمى به العدو، لأن العدو يقتضي قوة الضرب بالرّجل، وأطلق الركض في هذه الآية على سرعة سير الناس على وجه الاستعارة تشبيهاً لسرعة سيرهم بركض الأفراس.
و {منها} ظرف مستقر في موضع الحال من الضمير المنفصل المرفوع.
ودخلت (إذا) الفجائية في جواب (لما) للدلالة على أنهم ابتدروا الهروب من شدة الإحساس بالبأس تصويراً لشدة الفزع.