والحال أنهم ما نقموا من المؤمنين إلا خصلة{[1395]} يمدحون عليها ، وبها سعادتهم ، وهي أنهم كانوا يؤمنون بالله العزيز الحميد أي : الذي له العزة التي قهر بها كل شيء ، وهو حميد في أقواله وأوصافه وأفعاله .
وما كان للمؤمنين من ذنب عندهم ولا ثأر : ( وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد . الذي له ملك السماوات والأرض . والله على كل شيء شهيد ) . . فهذه جريمتهم أنهم آمنوا بالله ، العزيز : القادر على ما يريد ، الحميد : المستحق للحمد في كل حال ، والمحمود بذاته ولو لم يحمده الجهال ! وهو الحقيق بالإيمان وبالعبودية له .
قال الله تعالى : { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } أي : وما كان لهم عندهم ذنب إلا إيمانهم بالله العزيز الذي لا يضام من لاذ بجنابه ، المنيع الحميد في جميع أفعاله وأقواله وشرعه وقدره ، وإن كان قد قَدّر على عباده هؤلاء هذا الذي وقع بهم بأيدي الكفار به ، فهو العزيز الحميد ، وإن خفي سبب ذلك على كثير من الناس .
وقوله : وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إلاّ أنْ يُؤْمِنُوا بالله العَزِيزِ الْحَمِيدِ يقول تعالى ذكره : وما وجد هؤلاء الكفار الذين فتنوا المؤمنين على المؤمنين والمؤمنات بالنار في شيء ، ولا فعلوا بهم ما فعلوا بسبب إلاّ من أجل أنهم آمنوا بالله ، وقال : إلاّ أن يؤمنوا بالله ، لأن المعنى إلاّ إيمانهم بالله ، فلذلك حسن في موضعه يؤمنوا ، إذ كان الإيمان لهم صفة . الْعَزِيزِ يقول : الشديد في انتقامه ممن انتقم منه الْحَمِيدِ يقول : المحمود بإحسانه إلى خلقه .
وجملة { وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا باللَّه } في موضع الحال والواو واو الحال أو عاطفة على الحال التي قبلها .
والمقصود التعجيب من ظلم أهل الأخدود أنهم يأتون بمثل هذه الفظاعة لا لجرم من شأنه أن يُنقَم من فاعله فإن كان الذين خددواً الأخدود يهوداً كما كان غالب أهل اليمن يومئذ فالكلام من تأكيد الشيء بما يشبه ضده أي ما نقموا منهم شيئاً ينقم بل لأنهم آمنوا بالله وحده كما آمن به الذين عذبوهم . ومحل التعجيب أن المَلك ذا نواس وأهل اليمن كانوا متهودين فهم يؤمنون بالله وحده ولا يشركون به فكيف يعذِّبون قوماً آمنوا بالله وحده مثلهم وهذا مثل قوله تعالى : { قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل } [ المائدة : 59 ] وإن كان الذين خدّدوا الأخدود مشركين ( فإن عرب اليمن بقي فيهم من يعبد الشمس ) فليس الاستثناء من تأكيد الشيء بما يشبه ضده لأنّ شأن تأكيد الشيء بما يشبه ضده أن يكون ما يشبه ضد المقصود هو في الواقع من نوع المقصود فلذلك يؤكد به المقصود وما هنا ليس كذلك لأن الملك وجنده نقموا منهم الإِيمان بالله حقيقة إن كان الملك مشركاً .
وإجراء الصفات الثلاث على اسم الجلالة وهي : { العزيز } ، { الحميد } ، { الذي له ملك السماوات والأرض } لزيادة تقرير أن ما نقموه منهم ليس من شأنه أن ينقم بل هو حقيق بأن يُمدحُوا به لأنهم آمنوا بربّ حقيق بأن يؤمن به لأجل صفاته التي تقتضي عبادته ونبذَ ما عداه لأنه ينصُر مواليه ويثيبهم ولأنه يَمْلِكهم ، وما عداه ضعيف العزة لا يضر ولا ينفع ولا يَملك منهم شيئاً فيقوى التعجيب منهم بهذا .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وما وجد هؤلاء الكفار الذين فتنوا المؤمنين على المؤمنين والمؤمنات بالنار في شيء، ولا فعلوا بهم ما فعلوا بسبب، إلاّ من أجل أنهم آمنوا بالله، وقال: إلاّ أن يؤمنوا بالله، لأن المعنى إلاّ إيمانهم بالله، فلذلك حسن في موضعه يؤمنوا، إذ كان الإيمان لهم صفة." الْعَزِيزِ "يقول: الشديد في انتقامه ممن انتقم منه "الْحَمِيدِ" يقول: المحمود بإحسانه إلى خلقه...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أحدهما: ذكر العزيز الحميد ليعلم أنه لا يلحقه ذل بما يحل من الذل بأوليائه وأهل طاعته، ولا في حمده قصور بقهر أوليائه خلافا لما عليه ملوك الدنيا؛ وذلك أن ملوك الدنيا إذا حل بأولياء واحد منهم ذل كان الذل حالا فيه أيضا، وإذا قهر بعض أتباعه، فترك نصرهم، وهو قادر على نصرهم وإغاثتهم، لم يحمدوا ذلك منه، ولحقته المذمة؛ وذلك لأن الملك استفاد العز بأتباعه وأنصاره، فإذا استذل أتباعه زال ما به نال العز، فلحقه الذل، ونال الحمد أيضا بالإحسان إلى مملكته. فإذا ترك نصرهم، وهو ممكن من ذلك، فقد ترك إحسانه إليهم، فصار به غير ممدوح ومحمود. والله تعالى، استحق العز والحمد بذاته لا بأحد من خلائقه، فلم يكن في إذلال أوليائه ما يوجب النقص في وصف الحمد ولا ما يوجب قصورا في العز.
والثاني: أن الدنيا وما فيها أنشئت للإهلاك، ولعل الإهلاك بما ذكره أيسر عليهم من هلاكهم حتف أنوفهم، وكان في ذلك النوع من الهلاك نيل درجة الشهداء، وهي التي ذكرها الله تعالى في قوله: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربه يرزقون} [آل عمران: 169] ولا تنال تلك الدرجة بموتهم حتف أنوفهم، فهذا أبلغ نصرا منه إياهم. ثم للجزاء والعقاب دار أخرى، فيها يظهر تعزيز الأولياء وقمع الأعداء؛ فلم يكن في ترك النصر في الدنيا ما يوجب وهنا ولا ذلا. وأما ملوك الدنيا إذا تركوا نصرهم وقت ملكهم لأوليائهم فلم يتوقع منهم النصر بعد ذلك، إذ ليست في أيديهم إلا المنافع الحاضرة، لذلك لحقتهم المذمة بترك النصر...
{وما نقموا منهم} أي لم يكن من المؤمنين بمكانهم جرم من ينتقم منهم بالإحراق سوى أن آمنوا بالله تعالى. وقيل: ما عابوا عليهم، وما أنكروا منهم، وفي هذا تبيين سفههم وعتوهم لأنهم علموا أن مالهم من النعم كلها من الله تعالى، فكان الذي يحق عليهم أن يؤمنوا بالله تعالى] ويشكروه بما خولهم من النعم، ويدعوا غيرهم إلى الإيمان به، لا أن يقتلوا، ويعذبوا من آمن به...
{العزيز الحميد} فالعزيز هو الذي لا وجود لمثله أو هو عزيز، لا يلحقه ذل، فيكون العز مقابل الذل. وقال أهل التفسير: العز المنع، والعزيز، هو الذي لا يعجزه شيء، والحميد: المستوجب الحمد من كل أحد بذاته...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ}: أي وما علموا فيهم عيباً ولا وجدوا لهم جرماً ولا رأوا منهم سوءاً...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
... النقمة: إيجاب مضرة على حال مذمومة. ونقيض النقمة النعمة، فهؤلاء الجهال نقموا حال الإيمان، لأنهم جعلوها بجهلهم حالا مذمومة...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
جعلوا ما هو في غاية الحسن قبيحاً حتى نقموا عليه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمقصود التعجيب من ظلم أهل الأخدود أنهم يأتون بمثل هذه الفظاعة لا لجرم من شأنه أن يُنقَم من فاعله فإن كان الذين خددوا الأخدود يهوداً كما كان غالب أهل اليمن يومئذ فالكلام من تأكيد الشيء بما يشبه ضده أي ما نقموا منهم شيئاً ينقم بل لأنهم آمنوا بالله وحده كما آمن به الذين عذبوهم. ومحل التعجيب أن المَلك ذا نواس وأهل اليمن كانوا متهودين فهم يؤمنون بالله وحده ولا يشركون به فكيف يعذِّبون قوماً آمنوا بالله وحده مثلهم وهذا مثل قوله تعالى: {قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل} [المائدة: 59] وإن كان الذين خدّدوا الأخدود مشركين (فإن عرب اليمن بقي فيهم من يعبد الشمس) فليس الاستثناء من تأكيد الشيء بما يشبه ضده لأنّ شأن تأكيد الشيء بما يشبه ضده أن يكون ما يشبه ضد المقصود هو في الواقع من نوع المقصود فلذلك يؤكد به المقصود وما هنا ليس كذلك لأن الملك وجنده نقموا منهم الإِيمان بالله حقيقة إن كان الملك مشركاً. وإجراء الصفات الثلاث على اسم الجلالة وهي: {العزيز}، {الحميد}، {الذي له ملك السماوات والأرض} لزيادة تقرير أن ما نقموه منهم ليس من شأنه أن ينقم بل هو حقيق بأن يُمدحُوا به لأنهم آمنوا بربّ حقيق بأن يؤمن به لأجل صفاته التي تقتضي عبادته ونبذَ ما عداه لأنه ينصُر مواليه ويثيبهم ولأنه يَمْلِكهم، وما عداه ضعيف العزة لا يضر ولا ينفع ولا يَملك منهم شيئاً فيقوى التعجيب منهم بهذا...
أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :
والإتيان هنا بصفتي الله تعالى العزيز الحميد إشعار بأنه سبحانه قادر على نصرة المؤمنين والانتقام من الكافرين، إذ العزيز هو الغالب، كما يقولون: من عزّ بز، ولكن جاء وصفه بالحميد، ليشعر بأمرين. الأول: أن المؤمنين آمنوا رغبة ورهبة، رغبة في الحميد على ما يأتي الغفور الودود، ورهبة من العزيز كما سيأتي في قوله: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ}، وهذا كمال الإيمان رغبة ورهبة وأحسن حالات المؤمن. والأمر الثاني: حتى لا ييأس أولئك الكفار من فضله ورحمته، كما قال: {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ} إذ أعطاهم المهلة من آثار صفته الحميد سبحانه...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
... إنّه الانحطاط الكبير الذي وصل إليه أولئك القوم، قد صوَّر لهم أعزّ وأفضل ما ينبغي للإنسان أن يفتخر به (الإيمان باللّه) على أنّه جرم كبير وذنب لا يغتفر!... وذكر «العزيز الحميد» جواب لما اقترفوا من جريمة بشعة، واحتجاج على اُولئك الكفرة، إذ كيف يكون الإيمان باللّه جرم وذنب؟! وهو أيضاً، تهديد لهم، بأن يأخذهم اللّه العزيز الحميد جراء ما فعلوا، أخذ عزيز مقتدر...