ثم انتقل إلى إقرارهم بما هو أعم من ذلك كله فقال : { قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ } أي : ملك كل شيء ، من العالم العلوي ، والعالم السفلي ، ما نبصره ، وما لا نبصره ؟ . و " الملكوت " ب صيغة مبالغة بمعنى الملك . { وَهُوَ يُجِيرُ } عباده من الشر ، ويدفع عنهم المكاره ، ويحفظهم مما يضرهم ، { وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ } أي : لا يقدر أحد أن يجير على الله . ولا يدفع الشر الذي قدره الله . بل ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه ،
{ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ } أي : بيده الملك ، { مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا } [ هود : 56 ] ، أي : متصرف فيها . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا والذي نفسي بيده " ، وكان إذا اجتهد في اليمين قال{[20648]} : " لا ومقلب القلوب " ، فهو سبحانه الخالق المالك المتصرف ، { وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } كانت العرب إذا كان السيد فيهم فأجار أحدًا ، لا يُخْفَر في جواره ، وليس لمن دونه أن يجير عليه ، لئلا يفتات عليه ، ولهذا قال الله : { وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ } أي : وهو السيد العظيم الذي لا أعظم منه ، الذي له الخلق والأمر ، ولا معقب لحكمه ، الذي لا يمانع ولا يخالف ، وما شاء{[20649]} كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وقال الله : { لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } [ الأنبياء : 23 ] ، أي : لا يسئل عما يفعل ؛ لعظمته وكبريائه ، وقهره وغلبته ، وعزته وحكمته{[20650]} ، والخلق كلهم يُسألون عن أعمالهم ، كما قال تعالى : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ الحجر : 92 ، 93 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلّهِ قُلْ فَأَنّىَ تُسْحَرُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا امحمد : من بيده خزائن كلّ شيء ؟ كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : مَلَكُوتُ كُلّ شَيْءٍ قال : خزائن كلّ شيء .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن مجاهد ، في قول الله : قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَيْءٍ قال : خزائن كلّ شيء .
وقوله : وَهُوَ يُجِيرُ من أراد ممن قصده بسوء . وَلا يُجارُ عَلَيْهِ يقول : ولا أحد يمتنع ممن أراده هو بسوء فيدفع عنه عذابه وعقابه . إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ من ذلك صفته ، فإنهم يقولون : إن ملكوت كلّ شيء والقدرة على الأشياء كلها لله . فقل لهم يا محمد : فَأنّى تُسْحَرُونَ يقولون : فمن أيّ وجه تُصْرَفون عن التصديق بآيات الله والإقرار بأخباره وأخبار رسوله والإيمان بأن الله القادر على كل ما يشاء وعلى بعثكم أحياء بعد مماتكم ، مع علمكم بما تقولون من عظيم سلطانه وقدرته ؟
وكان ابن عباس فيما ذُكر عنه يقول في معنى قوله تُسْحَرُونَ ما :
حدثني به عليّ ، قال : حدثنا عبد الله قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : فَأنّى تُسْحَرُونَ يقول : تكذبون .
وقد بيّنت فيما مضى السّحْر : أنه تخييل الشيء إلى الناظر أنه على خلاف ما هو به من هيئته ، فذلك معنى قوله : فَأنّى تُسْحَرُونَ إنما معناه : فمن أيّ وجه يُخَيلّ إليكم الكذب حقّا والفاسد صحيحا ، فتصرفون عن الإقرار بالحقّ الذي يدعوكم إليه رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم .
قد عرفت آنفاً نكتة تكرير القول .
والملكوت : مبالغة في الملك بضم الميم . فالملكوت : الملك المقترن بالتصرف في مختلف الأنواع والعوالم لذلك جاء بعده { كل شيء } .
واليد : القدرة . ومعنى { يجير } يغيث ويمنع من يشاء من الأذى . ومصدره الإجارة فيفيد معنى الغلبة ، وإذا عدي بحرف الاستعلاء أفاد أن المجرور مغلوب على أن لا ينال المجارَ بأذى فمعنى { لا يجار عليه } لا يستطيع أحد أن يمنع أحداً من عقابه . فيفيد معنى العزة التامة .
وبني فعل { يجار عليه } للمجهول لقصد انتفاء الفعل عن كل فاعل فيفيد العموم مع الاختصار .
ولما كان تصرف الله هذا خفياً يحتاج إلى تدبر العقل لإدراكه عُقب الاستفهام بقوله : { إن كنتم تعلمون } كما عقب الاستفهام الأول بمثله حثاً لهم على علمه والاهتداء إليه .
ثم عقب بما يدل على أنهم إذا تدبروا علموا فقيل { سيقولون لله } .