الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{قُلۡ مَنۢ بِيَدِهِۦ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيۡءٖ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيۡهِ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (88)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{قل من بيده ملكوت} يعني: خلق {كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه} يقول: يؤمن ولا يؤمن عليه أحد {إن كنتم تعلمون}.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد: من بيده خزائن كلّ شيء؟...

وقوله:"وَهُوَ يُجِيرُ" من أراد ممن قصده بسوء، "وَلا يُجارُ عَلَيْهِ "يقول: ولا أحد يمتنع ممن أراده هو بسوء فيدفع عنه عذابه وعقابه.

"إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ" من ذلك صفته، فإنهم يقولون: إن ملكوت كلّ شيء والقدرة على الأشياء كلها لله.

فقل لهم يا محمد: "فَأنّى تُسْحَرُونَ" يقولون: فمن أيّ وجه تُصْرَفون عن التصديق بآيات الله والإقرار بأخباره وأخبار رسوله والإيمان بأن الله القادر على كل ما يشاء وعلى بعثكم أحياء بعد مماتكم، مع علمكم بما تقولون من عظيم سلطانه وقدرته؟

وكان ابن عباس فيما ذُكر عنه يقول في معنى قوله: "فَأنّى تُسْحَرُونَ" يقول: تكذبون.

وقد بيّنت فيما مضى السّحْر: أنه تخييل الشيء إلى الناظر أنه على خلاف ما هو به من هيئته، فذلك معنى قوله: "فَأنّى تُسْحَرُونَ" إنما معناه: فمن أيّ وجه يُخَيلّ إليكم الكذب حقّا والفاسد صحيحا، فتصرفون عن الإقرار بالحقّ الذي يدعوكم إليه رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{وهو يجير ولا يجار عليه} أي يؤمن كل خائف، ولا يقدر أحد أن يؤمن من أخافه، وهو كقوله: {وإن يمسسك الله بضر} الآية.

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

{وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ علَيْهِ} أي يمنع ولا يُمنع منه فاحتمل ذلك وجهين: أحدهما: في الدنيا ممن أراد هلاكه لم يمنعه منه مانع، ومن أراد نصره لم يدفعه من نصره دافع. الثاني: في الآخرة لا يمنعه من مستحق الثواب مانع ولا يدفعه من مستوجب العذاب دافع.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

أجرت فلاناً على فلان: إذا أغثته منه ومنعته، يعني: وهو يغيث من يشاء ممن يشاء، ولا يغيث أحد منه أحداً.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

{وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} كانت العرب إذا كان السيد فيهم فأجار أحدًا، لا يُخْفَر في جواره، وليس لمن دونه أن يجير عليه، لئلا يفتات عليه، ولهذا قال الله: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ} أي: وهو السيد العظيم الذي لا أعظم منه، الذي له الخلق والأمر، ولا معقب لحكمه، الذي لا يمانع ولا يخالف، وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وقال الله: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]، أي: لا يسئل عما يفعل؛ لعظمته وكبريائه، وقهره وغلبته، وعزته وحكمته، والخلق كلهم يُسألون عن أعمالهم، كما قال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92، 93].

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما قررهم بالعالمين: العلوي والسفلي، أمره بأن يقررهم بما هو أعم منهما وأعظم، فقال: {قل من بيده} أي خاصة {ملكوت كل شيء} أي من العالمين وغيرهما، والملكوت الملك البليغ الذي لا نقص فيه بوجه...

{وهو يجير} أي يمنع ويغيث من يشاء فيكون في حرزه، لا يقدر أحد على الدنو من ساحته {ولا يجار عليه} أي ولا يمكن أحداً أبداً أن يجير جواراً يكون مستعلياً عليه بأن يكون على غير مراده، بل يأخذ من أراد وإن نصره جميع الخلائق، ويعلي من أراد وإن تحاملت عليه كل المصائب، فتبين كالشمس أنه لا شريك يمانعه، ولا ولد يصانعه أو يضارعه...

ولما كان هذا برهاناً مع أنه ظاهر لا يخفى على أحد، قد يمجمج فيه من له غرض في اللدد، ألهبهم إلى المبادرة إلى الاعتراف به وهيجهم بقوله: {إن كنتم} أي كوناً راسخاً {تعلمون} أي في عداد من يعلم.

تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :

والخلاصة: إنه المدبر لنظام العالم جميعه، وهو الذي يغيث من شاء، ولا يستطيع أحد أن يغيث منه.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

فهو سؤال عن السيطرة والسطوة والسلطان. سؤال عمن بيده ملكية كل شيء ملكية استعلاء وسيطرة. ومن هو الذي يجير بقوته من يشاء فلا يناله أحد؛ ولا يملك أحد أن يجير عليه، وأن ينقذ من يريده بسوء من عباده.. من؟

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

قد عرفت آنفاً نكتة تكرير القول.

والملكوت: مبالغة في الملك بضم الميم، فالملكوت: الملك المقترن بالتصرف في مختلف الأنواع والعوالم لذلك جاء بعده {كل شيء}.

واليد: القدرة. ومعنى {يجير}: يغيث ويمنع من يشاء من الأذى، ومصدره الإجارة فيفيد معنى الغلبة، وإذا عدي بحرف الاستعلاء أفاد أن المجرور مغلوب على أن لا ينال المجارَ بأذى فمعنى {لا يجار عليه} لا يستطيع أحد أن يمنع أحداً من عقابه، فيفيد معنى العزة التامة.

وبني فعل {يجار عليه} للمجهول لقصد انتفاء الفعل عن كل فاعل فيفيد العموم مع الاختصار.

ولما كان تصرف الله هذا خفياً يحتاج إلى تدبر العقل لإدراكه عُقب الاستفهام بقوله: {إن كنتم تعلمون} كما عقب الاستفهام الأول بمثله حثاً لهم على علمه والاهتداء إليه.

ثم عقب بما يدل على أنهم إذا تدبروا علموا فقيل {سيقولون لله}.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

الملكوت هو التعبير الآخر عن الملك، وهو السلطنة على الأشياء من موقع الخلق والإبداع.. والسؤال الذي تطرحه الآية على هؤلاء يستهدف توجيه نظرهم إلى كل ما حولهم ومن حولهم، من مخلوقات حية أو جامدة، وثابتة أو متحركة، وكبيرة أو صغيرة، ليدرسوا نشوءها ونموّها وخصائصها الذاتية، وليكتشفوا القوّة الكامنة فيها، هل هي قوّة ذاتية تنطلق من الداخل، أم هي قوة مستعارة أو مستمدة من قوّة أخرى تملكها وتملك كل مواقع القوّة فيها؟ إن السؤال يطرح نفسه على الإنسان عندما يفكر، ويطرح نفسه على كل من يدعوهم إلى التفكير، ليصل إلى معرفة القوّة التي تمنح الوجود كله، بمفرداته الصغيرة والكبيرة، سرّ القوّة والحركة والوجود والحياة، هذه القوة التي يجسدها الله تعالى، والتي هي القوة الوحيدة المستغنية عمّا عداها. {وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} تلك هي خصوصية الملك المطلق الذاتي الذي لا يستمد قوّته ومعناه من غيره، فهناك من المالكين من قد يحمون غيرهم ويمنعون عنهم سيطرة القوى الأخرى وعدوانها عليهم، ولكن القوى العليا المسيطرة على هؤلاء المالكين الأقوياء تستطيع حماية الناس منهم لو فكروا في العدوان عليهم، فهؤلاء المالكون لا يملكون القوّة إلا من جانب واحد، بينما يعيشون الضعف من الجانب الآخر، فهم قد يمنحون الناس الحماية من غيرهم، ولكنهم لا يستطيعون منع القوى الكبرى من حماية الناس منهم.. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذه الآية: من هو المالك الذي يملك كل شيء، ويستطيع أن يجير كل أحد من كل سوء يعرض عليه، من أي سبب في الأرض أو في السماء، ولا يملك أحد أن يجير عليه إذا أراد أن يوقع السوء بأيّ شخص؟ هو الذي يكفي من كل شيء ولا يكفي منه شيء، كتعبيرٍ عن القوّة المطلقة التي تملك غيرها بكل وجوده وحركته، ولا يملك غيرها شيئاً لديها في جميع الأمور.